مذكرات مسؤول مستبعد يروي «ميلودراما إدارة ترامب»

«الولاء الأعلى».. شهادات من قلب الأحداث

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان ذلك منذ ثلاثة أرباع القرن أو نحوه، وبالتحديد قرب منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، أيامها استقبل القارئون في مصر العربية كتاباً غريباً من تأليف السياسي الشهير وقتها مكرم عبيد، الذي انشق على حزب الوفد ثم أصدر كتابه الذي يكشف فيه عما ارتكبته قيادات الحزب المذكور من مخالفات وأخطاء تمثلت في فساد الذمم وانحرافات السلوك.

أيامها حمل الكتاب المذكور اسماً شهيراً وهو: «الكتاب الأسود».

ثم ها هي الأيام القليلة الماضية تستعيد ذكرى هذه الحالة المصرية.. ولكن في الولايات المتحدة الأميركية هذه المرة.

لقد استقبلت جماهير القارئين والمحللين والمؤرخين في أميركا ما يمكن وصفه بأنه «الكتاب الأسود» وإن حمل الكتاب الأميركي عنواناً رئيساً مغايراً وهو: «الولاء الأعلى»، للكاتب جيمس كومي ثم يضاف العنوان الفرعي على سبيل الشرح قائلاً: «الحقيقة والأكاذيب والقيادة». على أن هذا الكتاب يكتسب أهميته من واقع عاملين محوريين:

•الأول:أن مؤلفه هو المدير السابق لمكتب التحقيقات - المباحث الفيدرالية بالولايات المتحدة، وهو منصب كان ولا يزال من الخطورة بمكان.

•الثاني:أن الشخصية التي تدور حولها محاور هذا الكتاب تتمثل في دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة.

من هنا، فإن إلقاء الضوء على هذا الكتاب إنما يفرض على القارئ أو المحلل الالتزام بمنهج الموضوعية في العرض والتحليل في ضوء أهمية المؤلف ورئيسه، فضلاً عن صرف النظر عما شاب طروحات وسطور الكتاب من أوصاف وجهها المؤلف إلى الرئيس ترامب، وبعضها لا يعد لائقاً، حيث الأهم عند القارئ المحايد هو الحرص على استقاء عبرة الوقائع ودروس الأحداث والتطورات.

ولعل أهم ما يلاحظه قارئو هذا الكتاب هو أن المؤلف ما برح يصدر في نظراته وأفكاره وأحكامه بروح وكيل النيابة - رجل التحقيقات الجنائية الذي يستند إلى «سوابق» بارزة في مسيرته المهنية، وفي مقدمتها كما يوضح الكتاب، دوره المميز في إدانة زعامات المافيا التي أرسل رأسها القيادي «غامبينو» ومساعدوه إلى السجن.

والغريب أن مؤلف كتابنا يكاد يعقد مقارنات لا تخفى على القارئ بين اجتماعات تلك العصابات وبين الاجتماعات التي قُيض له أن يشهدها في دوائر الرئاسة الأميركية في واشنطن، ومن مشاهد تلك المقارنات -كما يصورها المؤلف- ما لاحظه في اجتماعات ترامب ومساعديه من هيمنة أجواء الولاء المطلق للزعيم وسيادة الشعور الذي تلخصه عبارة «نحن ضد الآخرين» وعدم التورع -كما يضيف المؤلف أيضاً- عن إطلاق الأكاذيب في الأمور الكبيرة والصغيرة على السواء.

من هنا يخلص جيمس كومي في هذا الكتاب إلى رؤية يلخصها في السطور التالية: «... إننا نشهد مرحلة خطيرة في بلدنا.. نعايش بيئة سياسية من نوع خاص، حيث الحقائق الأساسية تثير التساؤلات، وحيث الأكاذيب يتم تسويفها والتعوّد عليها، وحيث السلوكيات غير السوية تعامل بالتجاهل والتساهل بل والمكافأة في بعض الأحيان».

وسواء اتفق قارئ الكتاب مع مثل هذه التصورات والأحكام من جانب موظف أميركي كبير أزيح عن منصبه الخطير، فإن القارئ الموضوعي لا بد وأن يهتم بمثل هذه النوعية من المؤلفات؛ أولاً لكونه أول مذكرات تصدر عن واحد من اللاعبين الرئيسين في إدارة دونالد ترامب» - التي تصفها «نيويورك تايمز» في تحليلها النقدي لهذا الكتاب بعبارة «ميلودراما إدارة ترامب».

من ناحية أخرى، فإن قارئ المذكرات لا ينبغي أن يتجاهل أو ينسى أن المؤلف قد أصدر مذكراته من موقع شعور لا بد وأنه كان ممتعضاً بعد أن صدر قرار الرئاسة في البيت الأبيض بإبعاده عن منصبه في 9 مايو من عام 2017 بعد أن خدم في سلك ثلاث إدارات رئاسية سابقة في واشنطن، ولقد كان من البديهي أيضاً أن يتولد عند المؤلف مشاعر حادة من الضغينة، فإذا به لا يتورع عن إفشاء ما سبق له، بحكم منصبه (المباحثي) حتى لا ننسى، من مواقف كانت مستورة في طيّ الكتمان..

ومن ذلك حديث الكتاب مثلاً عن ما ادعاه بشأن سلوكيات ترامب في التعامل مع النساء في فندق بالعاصمة الروسية موسكو في عام 2013، ناهيك عن إثبات المؤلف ملاحظاته لدى لقائه الأول مع الرئيس ترامب موضحاً أن شعر الرأس عند الرئيس الأميركي حقيقي وليس مستعاراً، وأن حجمه الجسماني هو أصغر مما يبدو في الصور المنشورة.

في أي حال، ينبغي اتباع خط التحفظ المطلوب في التعامل مع مثل هذه النوعية من المذكرات بكل ما تحفل به، بحكم الضرورة والملابسات خاصة في حالة صدورها، كما أسلفنا، عن مسؤول كان يعرف الكثير من المعلومات وإن كان يطوي سريرته على الكثير من الرفض والبغض لمن أزاحه عنوة من موقعه الخطير.

والمعنى أن ثمة روحاً لا بد وأن يدركها ويستوعبها قارئ هذا الكتاب من تصفية الحسابات.

والمعنى المقابل إنما يتمثل في الحملة الشعواء التي بادر الرئيس ترامب بشنها على الكتاب وصاحب الكتاب معبراً -بالطبع- عن غضبة نارية، كما نتصور. وكما جرت عادته، فقد لجأ دونالد ترامب إلى وسيلة التويتر المفضلة لديه.

وعبر «تغريدات» عديدة اتهم مؤلف كتابنا بالخروج على مقتضيات وظيفته ما بين تسريب معلومات إلى نشر أكاذيب إلى التواطؤ مع هيلاري كلينتون المرشحة الرئاسية السابقة.. إلى آخر الاتهامات التي زادت، في رأينا، من أهمية ورواج هذا الكتاب، وإن كان ترامب قد خلص في التغريدات إلى نوع من الرضا عن النفس أو المديح الذاتي موضحاً أنه كان له «عظيم الشرف بإقالة جيمس كومي في مايو من العام الماضي..».

Email