«صعود المرأة في رواندا»..قصص نجاح

ت + ت - الحجم الطبيعي

من كان يصدق أن مياه النهر سيعلوها لون الحمرة القانية؟ لكن هذا هو الذي حدث في عام 1994. والنهر هو النيل الذي يضم في حوضه مجموعة من أقطار القارة الإفريقية السمراء.. ومنها بلد أفريقي صغير شهد في العام المذكور مأساة تعرّض فيها شعبه الصغير (نحو 10 ملايين نسمة) لكارثة صراع دموي عنيف راح ضحيتها أكثر من مليون إنسان.. ممن لقوا حتفهم في مذابح تراجيدية شهدت إراقة الدماء التي تدفقت إلى حيث صبغت مياه النهر الكبير بحمرتها، وتخلفت عنها آثار أكثر من وخيمة غطت كل جنبات البلد الأفريقي الذي يحمل الاسم المعروف: «رواندا» في صراعه مع البلد الجار «بوروندي». وكان بديهياً في تلك الأصقاع الإفريقية أن تكون المرأة هي الضحية المحورية لويلات ذلك العنف الدموي في تلك الحقبة، والتي عادت بعد نحو ربع قرن متدثرة بإهاب جديد تماماً.

وهذا هو بالضبط ما قصدت إليه البروفيسور «سواني هنت»، أستاذ علم السياسة في جامعة هارفارد، في كتابها الجديد: «صعود المرأة الرواندية». ويلاحظ أن هذا الكتاب قد ضم عدداً من الملاحظات والتعليقات الإيجابية الصادرة عن الرئيس الأميركي الأسبق «جيمي كارتر» والتي تعكس الطموحات التي يرنو إليها، وخاصة من خلال المؤسسة التي تحمل اسمه فيما يتعلق بمعالجة المشكلات والعقبات التي ما برحت تؤرق البشر والشعوب.

وما أبعد الشقة بين أبعاد المأساة الدموية التي شهدتها رواندا في ربيع 1994، حيث كان الجيران يهاجمون الجيران، وبين ما استطاعت أن تقوم به نساء رواندا، حيث اجتزن أسوار هذه المأساة المروعة بل وتحّولن إلى رائدات يدرجن بخطى ثابتة ومصممة على طريق التحدي والتصميم، وبما يفضي إلى خلق حالة من الاستقرار وأجواء من المصالحة في أعقاب جحيم الحرب الذي سبق واجتاح مرافق رواندا في سياق سنوات مضت من القرن العشرين.

هنالك لم يسع مؤلفة هذا الكتاب إلا أن ترصد أبعاد هذا التعافي الذي ما برحت تشهده رواندا، وقد تجسدت أبعاده في مظاهر وأوضاع ومتغيرات شتى ليس أقلها، مثلاً، أن برلمان رواندا بات ينفرد، ربما بأكثر من أي بلد آخر، بأن المرأة أصبحت تشكل نسبة 64 في المئة من أعضائه المنتخبين.

وفي سياق الدراسة التي أودعتها المؤلفة بين دفتَي هذا الكتاب، يتضح لنا أن الدكتورة «هنت» تواصلت مع أكثر من 70 سيدة رواندية مزودة في ذلك بكل ما وعته من خبرات سابقة تدارست فيها أوضاع المرأة في 60 بلداً وعلى مدار أكثر من عقدين من الزمن، ثم خلصت بعد ذلك إلى محصلة غير مسبوقة تفسر بها مسيرة نساء رواندا من ظلمة مأساة الحرب الدموية إلى إشراق الأوضاع الواعدة التي تضيء المشهد الراهن في تلك الأرجاء.

هنا يتوقف القارئ ملياً عند الملاحظة المحورية التالية على نحو ما تسجله مؤلفة هذا الكتاب: لم تصل المرأة الرواندية إلى تلك النسبة المرموقة من التمثيل في برلمان بلادها من خلال جهود بذلتها النساء سعياً من جانبهن إلى أضواء الشهرة. نساء رواندا قررن سلوك طريق جديد وفريد أيضاً في هذا المضمار: اجتمعت كلمتهن على تجميع صفوف النساء حول المشكلات العامة التي تمس حياة كل مواطني البلد الأفريقي الذي ينتمين إليه، ولاسيما خلال فترة التعافي من جروح الماضي، وهي أيضاً مرحلة الطموح إلى مستقبل أفضل، ولو كان نسبياً بكل المعاني.

ومن الأمثلة التي تسوقها في هذا الخصوص مؤلفة هذا الكتاب ما كان يتمثل في حشد وتعبئة الصفوف النسائية حول قضايا الحياة اليومية للمواطن العادي البسيط؛ قضايا من قبيل: الرعاية الصحية، المسكن اللائق، حياة الفقراء وإمكاناتهم ومواردهم ومعاناتهم، فضلاً عما يكابدونه من متاعب وما يساورهم من أفكار وما يرنون إلى تحقيقه من آمال.

وحين تابعت مؤلفة هذا الكتاب مآلات تلك الجهود التي بذلتها امرأة رواندا خلال تلك المرحلة من التعافي، فإنها رصدت أيضاً كيف أن حالة هذا الإجماع النسائي على معالجة تلك المشكلات الاقتصادية والاجتماعية كان من شأنها، بحكم الضرورة، أن تفضي إلى معالجة قضايا اجتماعية أكثر تفصيلاً، وهي مشكلات من قبيل: جريمة الاغتصاب، مساواة الجنسين ضمن رابطة الزواج، دور المرأة كرائدة من رواد الأعمال وتنظيم وإدارة المشاريع الاقتصادية، حق الفتاة في التعليم والتعبير عن رأيها.

في ضوء هذا كله، تسجل المؤلفة الخلاصة التي انتهت إليها، بعد جهود العمل الميداني الذي التقت فيه بنساء من رواندا، والتي تمثلت في تأكيد مؤلفتنا أن سبيل التعافي من المعضلات على اختلاف تعقيداتها لابد وأن يضم بين طلائعه كل نساء الوطن، على نحو ما برهنت وما زالت تبرهن تجربة رواندا، التي ما برحت تسير واثقة على طريق النجاح في مضمار التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

Email