استراتيجيات وممارسات قاسية الوقع سببت امتعاضاً عالمياً من واشنطن

السياسة الخارجية الأميركية.. تاريخ وثمار ومستقبلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، خرجت إلى الوجود العالمي- السياسي دولة مستجدة حملت الاسم التالي: الولايات المتحدة الأميركية.

وعلى مدار القرن التاسع عشر بدت الدولة الجديدة، وكأنها مستغنية بذاتها عما كان يدور في عالم ذلك الزمان أو أنها اكتفت بالتفاعل مع عناصر وكيانات النصف الغربي من كوكب الأرض، حيث ارتضت- أو بالأدق فرضت- لنفسها، سبل الهيمنة على مقاليد هذا الجزء الواقع جغرافياً غرب المحيط الأطلسي، وهو ما حرص على تلخيصه المبدأ المنسوب إلى الرئيس الأميركي الخامس ﭽيمس مونرو (1758- 1831)، وقد أصدره الرئيس المذكور سنة 1823، ليقضي بالتالي:

- لم يعد من حق القوى- الدول الأوروبية- استعمار أصقاع الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، وأي تدخل أوروبي غرب الأطلسي ستتعامل معه الولايات المتحدة بموقف الرفض والاستياء، ولكن حين حلت حقبة القرن العشرين، كانت أميركا قد بلغت سن الرشد السياسي كما قد نقول: أطلت على سنوات القرن الماضي، وفي يدها اكتشافات مبهرة لم يكن أقلها البرق- تلغراف «مورس» ولا الهاتف- تليفون «ألكسندر غراهام بِلْ»، ولا طائرة الأخوين «رايت». وكلها- كما ترى- مخترعات أدت إلى تغيير- إن لم يكن «تثوير»، أساليب الحياة في طول الكرة الأرضية وعرضها.

ومن هنا بدأت أضواء الاهتمام تتجه نحو أميركا، وخاصة بعد أن أذاع رئيسها ويلسون (1856- 1924)، مبادئه ال14، الداعية إلى تفعيل حق الشعوب في تقرير المصير، وذلك عند ختام الحرب العالمية الأولى.

من هنا، تزايدت اهتمامات أهل العلم والسياسة بالدور المحوري المطرد الذي باتت تضطلع به واشنطن على المسرح العالمي؛ ويستوي في ذلك دورها في الحرب وفي السلام.

تلك هي- وبإيجاز-، معالم الخلفية التي يصدر عنها الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور، وهو من إعداد وتحرير اثنين من الأساتذة المتخصصين في مجالات السياسة الخارجية، وهما: روبرت جرفيس ولورين كاندو.

يلاحظ القارئ من بدايات هذا الكتاب، أن المحررين اعتمدا منهجاً تحليلياً لدى دراسة العلاقات الخارجية لواشنطن، إضافة إلى تحليل الجوانب والعناصر، التي تشكل استراتيجية الولايات المتحدة ومواقفها واستجابتها، ويستوي في ذلك اللجوء إلى القوى والإمكانات العسكرية، بقدر ما يستوي في ذلك أيضاً القوى الجيوسياسية، إضافة إلى الدور الذي يُعزى إلى التعامل مع قضايا حقوق الإنسان والحريات المدنية في سياق السياسة الخارجية الأميركية.

وفي هذه السياقات، يطالع القارئ، على امتداد الأجزاء الرئيسية الثلاثة التي تضم مادة الكتاب، مدى الأثر العميق والجريح أيضاً، الذي خلّفته أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، على الحياة والسياسة وعمليات صنع القرار في أميركا، وكيف أفضت عواقب هذه الأحداث إلى سيطرة فصائل «المحافظين الجدد» (نيو كونز) على «مطبخ» وضع الاستراتيجيات في البيت الأبيض، ناهيك عن تأثير روح التعصب الأيدولوﭽﻲ التي أشاعتها هذه الفصائل في أروقة رسم الاستراتيجيات، سواء في مكاتب البيت الأبيض أو في دوائر البنتاغون ووزارة الدفاع، إلى أن تجسدت النتائج المريرة في عملية غزو العراق بكل ما نجم عنها من كوارث.

وفي القسم الثالث من كتابنا، يتوقف محررا الكتاب عند ما أذاعه مع عقد التسعينيات من القرن الماضي المفكر الأميركي صمويل هنتنغتون، أستاذ علم السياسة بجامعة هارفارد، تحت العنوان التالي: «تصادم الحضارات».

ويذهب هذا الجزء الثالث من الكتاب إلى أن النظرية المذكورة أسيء استخدامها وتطبيقها بدعوى تطبيق السلم والديمقراطية، ناهيك عن السلام والفوضى الخلّاقة (!) في منطقة الشرق الأوسط، حيث يرى المحرران فداحة مواريث المحافظين الجدد، التي تخلفت سلباً على حياة الشعوب في المنطقة المذكورة، ولدرجة أن مصداقية السياسة الخارجية الأميركية في الحرب الراهنة ضد الإرهاب، ما زالت موضعاً للأخذ والرد إلى حد ليس بالبعيد.

ومن منظور البحث التاريخي، يتوقف كتابنا ملياً عند ما يراه المحرران خطأ المقارنة بين أحداث ال11 من سبتمبر 2001 في نيويورك، وبين أحداث تحطيم الأسطول الأميركي في ميناء«بيرل هاربور» الأميركي في بحر اليابان في أغسطس 1941. وهنا يرى الكتاب أن الظروف التاريخية شديدة الاختلاف، وأن هذا الخلط أدى إلى أخطاء شابت مسارات وسلوكات السياسة الخارجية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، بكل حساسيتها وتنوع أقطارها وشعوبها.

ويوضح المحرران كيف أدت هذه المقارنة إلى مبالغة الطرف الأميركي من حيث الاستجابة إزاء الحادثتين: صحيح أن واشنطن كان عليها أن تبالغ إزاء حادثة تدمير أسطولها بالكامل في ميناء أجنبي، فكان أن قررت دخول الحرب العالمية الثانية، ولكن لم يكن عليها أن تتبع أسلوب المبالغة ذاته، إلى حد التطرف، بعد أن تعرضت لحادثة المركز التجاري في نيويورك، وبحيث وصل الأمر إلى الزّج بجيوشها وإنفاق ملياراتها في حربين بدأت الأولى في أفغانستان، وأشعلت الثانية في العراق، من دون أن تجني منها أية ثمار إيجابية، بل أدت الحربان إلى المزيد من الدمار وإزهاق الأرواح، فضلاً عن التعرض إلى لعنة اسمها الإرهاب.

ويتحول الكتاب في بابه الثالث لمناقشة الدراسات المنشورة في هذا الباب: قضايا حقوق الإنسان، وخاصة في المرحلة الراهنة، التي بدأت مع عقد التسعينيات المنصرم- مرحلة انتهاء الحرب الباردة وزوال كيان المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. وهنا تركز مقولات الكتاب على ما تزامن مع هذه التحولات من ظهور كارثة الإرهاب الذي استطاعت فلوله أن تستغل أحدث ما توصلت إليه ثورات التحول الإعلامي، ومنجزات التقدم في تكنولوجيا المعلومات، وبلغ بها الأمر إلى حد تشكيل وإعلان ما وصفوه بأنه" دولة الخلافة" في أصقاع من خريطة الشرق الأوسط، وهو ما لا يزال يشكل تحديات بالغة الشراسة أمام السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حاليا وفي مستقبل الأيام.

 

 

Email