البث المرئي يؤثر في مسارات السياسيين ومصائر الشعوب

نيران التلفزيون..وتحوّلات السياسة الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان حدثاً مشهوداً وتجربة غير مسبوقة، بكل المعاني، في تاريخ الممارسة الديمقراطية بالولايات المتحدة. هو الحدث الذي يعود تاريخه إلى موسم الانتخابات الرئاسية، وبالتحديد إلى آخر وقائع المنافسة التي ظلت محتدمة بين مرشح الحزب الجمهوري ريتشارد نيكسون ومرشح الحزب الديمقراطي جون كينيدي مع مطلع عقد الستينيات من القرن العشرين.

أما الذي أضفى كل هذه الخصوصية على هذا المشهد، فكان يتلخص في كلمة واحدة وهي: التلفزيون.

نعم.. كان الأميركيون يستعدون وقتها لمتابعة، بل مشاهدة أول مناظرة متلفزة في تاريخ التنافس السياسي بالولايات المتحدة. هذا هو المشهد الذي يتوقف عنده ملياً، ومن منظور الرصد والتحليل واستقاء الدرس المستفاد، مؤلف الكتاب الذي نشرع في معايشته خلال ما يلي من سطور.

المؤلف هو الصحفي- الإعلامي الأميركي لورنس أودونيل الذي تخرج في جامعة هارفارد وتنقّل بين مناصب ومواقع إعلامية متعددة في مكاتب كبريات الصحف وفي أروقة وإدارات الكونغرس البرلمان الأميركي على السواء، إلى أن أصدر المؤلف أحدث أعماله الفكرية التي يجسدها كتابنا الذي اختار له أودونيل العنوان التالي: اللعب بالنار: انتخابات عام 1968 وتحولات السياسة الأميركية.

وبديهي أن الذي يعنينا كقارئين لا يتمثل في مجريات الأحداث المنقضية من التاريخ الأميركي القريب: بل إن الذي يهمنا بالدرجة الأولى هو الأمر المحوري التالي: كيف تأثرت، وتتأثر مجريات ومآلات الأحداث والتحولات السياسية من واقع الإمكانات والتحولات التي تطرأ على وسائل الإعلام.

ويشرح الكتاب أنه اختار الأميركيون مع مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي رئيساً كان يعاني من إعاقة الحركة. وهو فرانكلين ديلانو روزفلت (1882-1945). لكن الرجل نجح في أن ينقذ اقتصاد بلاده من الأزمة الاقتصادية عندما طبّق سياسة حملت وقتها عنوان «الصفقة الجديدة» (New Deal) بقدر ما أدار باقتدار مشهود، مشاركة أميركا في أتون الحرب العالمية الثانية ضد النظم النازية والفاشيّة.

والحاصل أنه فضلاً عن مواهب روزفلت كسياسي وإداري ومفكر، إلا أن كل هذه المواهب إنما ساعدت على صقلها وتعزيزها وتفعيلها حقيقة جوهرية تمثلت فيما يلي: رئاسة روزفلت تزامنت مع دخول الإذاعة المسموعة في حياة البشرية.. ومن ثم استطاع الرئيس الأميركي المذكور أن يبني جسوراً متينة من التواصل والثقة بينه وبين جماهير شعبه، بفضل جهاز «الراديو»، حيث دأب روزفلت على متابعة هذا التواصل من خلال لقاءاته الإذاعية المسموعة من الجماهير، تحت عنوانها الشهير: أحاديث المدفأة.

ثم دخل العالم عصر التلفزيون. ومن ثلاثينيات المسموعات الإذاعية جاء عقد الستينيات، ليشهد الجهاز المستجد العجيب الذي حمل من يومها اسم التلفزيون. وهنا يتوقف مؤلف كتابنا -على نحو ما ألمحنا- أمام فاتحة المناظرات المتلفزة-المرئية التي يشاهد فيها ملايين الناخبين عن قرب متلفز وعن كثب من أقرب وأدق ما يكون، ما يدور بين المرشحيْن المتنافسين.

الفصل الذي يصف فيه مؤلفنا تفاصيل المشهد المذكور يحمل العنوان:

اغتنام اللحظة. ومكان هذه اللحظة كان مدينة شيكاغو.. حيث «شبكة سي. بي. إس» التلفزيونية اتخذت استعداداتها لاستقبال المرشح ريتشارد نيكسون.

وكان نائباً لرئيس الجمهورية، وكان من حقه أن يطمح إلى منصب الرئيس. على أن الظهور في التلفزيون كان له استعداداته، وفي مقدمتها أن يخضع المرشح لتعليمات وتوجيهات غرفة المكياج.. لماذا؟.. لأن جماهير مشاهديه - من مؤيدين ومعارضين- جديرون بأن يطّلعوا، عن كثب طبعاً، على كل ما يرتبط بشخصيته وسلوكياته.. حركاته.. سكناته.. استجاباته.. ملامح سحنته.. تجاعيده حين يغضب وأساريره حين تنفرج.. إلخ.

المشكلة أن نيكسون -يضيف مؤلف كتابنا- تجاهل ما عرضوه عليه من تعليمات الماكياج، واختار بدلاً من ذلك أن يكتفي باستخدام بعض العقاقير المجلوبة من مخزن أدوية، وخاصة لإخفاء تقاطيع وجهه غير الحليق.

وهكذا ظهر المرشح المنافس جون كينيدي، شاباً تفيض ملامحه بحيوية العافية، يطالع الجماهير، في أول إطلالة متلفزة في التاريخ.. فيما ظهر نيكسون بملامح مرهقة وتجاعيد واضحة بدا للمشاهدين معها وكأنما أجهدته السنون والهموم.

وهنا يعلق مؤلف الكتاب بعبارات يقول فيها: كانت النتيجة أن خسر نيكسون لصالح كينيدي بنسبة هامشية تبلغ ثلثي الواحد في المائة من الأصوات، وتحديداً كانت نسبته 49.5 في المائة مقابل نسبة المنافس الناجح وهي 49.7 في المائة.

وعمل نيكسون على استيعاب كل الدروس المستفادة من هزيمته المتلفزة في مطلع الستينات في القرن الـ20. وعندما عاود دخول السباق الرئاسي في 1968 ضد منافسه ليندون جونسون، قال«ونفذ طبعاً»: سنقيم حملتنا الانتخابية بأكملها، على أساس محور واحد اسمه: التلفزيون.

وبعدها وجه نيكسون حديثه إلى أطقم التلفزيون : كل ما عليكم يا أولاد.. هو أن تقولوا ما ينبغي أن أفعله.. وأنا رهن الإشارة. وقد كان. وفاز نيكسون برئاسة أميركا.. وتأكدت بفوزه سطوة البث المرئي.. بل والتأثير العميق للإعلام، في مسارات السياسة وفي توجهات السياسيين، بل في مصائر الشعوب بشكل عام.. ومازال هذا التأثير متواصلاً.

Email