أحداث ومقولات كثيرة شابها التزييف منذ هوميروس وحتى تشرشل

أكاذيب لوّنت تاريخ العالم و«باعتنا» الوهم

ت + ت - الحجم الطبيعي

من مفارقات الزمان أن يظل الوهم سائغاً، وتبقى الأسطورة مطلوبة ولذيذة، في حين تظل الحقيقة قاسية ومنبوذة، وتبقى الموضوعية كائناً بارداً لا يطيقه الناس في أغلب الأحيان.

هكذا حَفل تاريخ البشر بحكايات مغلّفة بكساء من الوهم وأقاصيص أقرب إلى الأساطير التي غابت بين طياتها شمس الحقيقة، وكاد يتبدد في دواماتها اللذيذة حتى لا ننسى، منطق الصدق وحكْم الموضوعية إلى حد بعيد.

وكم نهض نفر من المفكرين والباحثين والمثقفين لكشف الستار عما شاب السرد التاريخي عبر العصور من أخلاط الوهم، ومنهم من ندب نفسه لتخليص الحقيقة، أو بالأدق استنقاذها من براثن الحكايات والتلفيقات أو الأكاذيب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وفي هذا الإطار، صدر منذ سنوات للباحث الأميركي ريتشارد شنكمان كتاب بعنوان «الأساطير والأكاذيب.. والخرافات الجذابة في تاريخ العالم».

ويبدو أن الشغف بعلم التاريخ قد استأثر باهتمام مؤلف كتابنا منذ دراسته الأكاديمية في جامعة هارفارد المرموقة بالولايات المتحدة، ومن هنا فهو لا يتردد في اعتماد منهج الشك العلمي في التعامل مع أحداث التاريخ، بكل ما حفل به دفتر تاريخ البشر من أحداث وتحولات وسرديات، وأيضاً من أوهام وشائعات وأساطير.

ومن هنا أيضاً، فهو يصدر منذ مفتتح هذا الكتاب عن رأي أو موقف يعرضه على النحو التالي:

•• أن كثيراً من تحولات التاريخ لم تحدث على النحو الذي عرضوه علينا، فكم كان المؤرخون على مرّ الأزمان يراوحون في رواياتهم بين الحقائق والأوهام.

ثم يعمد مؤلفنا إلى تقسيم الكتاب إلى 12 باباً، تبدأ بداهة بالزمن الإغريقي والروماني والسكندري القديم، وصولاً إلى زمن الحرب العالمية الثانية وما أعقبها، وخاصة ما فعلته، إن لم يكن ما «اقترفته» سينما هوليوود مع انتصاف القرن الماضي، حين عمدت بأفلامها وحكاياتها الملونة إلى عبور الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم.

وبين الفصلين الأول والثاني عشر، يصحبنا مؤلف الكتاب عبر مراحل العصور الوسطى والثورة الفرنسية (القرن 18) وصولاً إلى شخصيات وزعامات العصر الحديث، مثل «تشرشل» الإنجليزي وهتلر الألماني وهيروهيتو الياباني.

وفيما يحفل هذا الكتاب بطوفان من التفاصيل المتعلقة بالشخصيات والأحداث والمقولات وأيضاً بالأكاذيب والخرافات، فقد أصبح يتعين علينا كقارئين أن نتخيّر بعض العينّات الطريفة والدالة أيضاً من هذه الثمرات التي توصلت إليها وحرصت على عرضها قريحة المؤلف، وذلك على النحو المركَّز التالي:

• ينسبون ملحمة الإلياذة إلى شاعر الإغريق القديم هوميروس، وقد أدار أشعار الملحمة عن حرب طروادة، والحاصل أن رواة هذه الأشعار ومؤرخي هذه الحرب عاشوا وقدموا نتاج قرائحهم بعد 800 سنة من التاريخ الذي قيل إن حرب طروادة وقعت في سياقه، ثم إن هوميروس نفسه لم يعرف أي امرئ شيئاً عن شخصيته ولا محل إقامته ولا حتى وجوده من الأساس.

• الشاعر الشهير شكسبير نسب إلى قيصر إمبراطور الرومان الأشهر عبارة تفّوه بها قيصر لحظة اغتياله، والعبارة هي:

- حتى أنت يا بروتس؟

لكن التحقيق الأكاديمي التاريخي أثبت أن العبارة الصحيحة هي: حتى أنت يا بروتس.. يا ابني (بالأدق يا طفلي)، إذ كان قيصر يتصور أن بروتس ابن من صلبه.

• ريتشارد قلب الأسد، المحارب الشهير خلال المد الصليبي في العصور الوسطى، لا يزال بطلاً في أعين الإنجليز، لكن تاريخه ليس ناصعاً في كل الأحوال. وفي هذا السياق، يعلق مؤلف الكتاب قائلاً: «لم أفهم قط لماذا يحبه الإنجليز، لقد أمضى معظم سنوات عمره خارج بلادهم، لم يتعلم اللغة الإنجليزية من قريب أو بعيد، وهو الذي خضّب الأراضي بالدماء لكي يموّل الحروب الصليبية التي خاض غمارها».

• ضابط الاستخبارات البريطاني الذي خلعوا عليه في التاريخ الحديث لقب «لورنس العرب» صنعوا له هالات من الشجاعة والبطولة. أما الحقيقة - كما يقول مؤلف كتابنا (ص 132) - أن لورنس المذكور أعلاه خدع العرب وأضر بمصالحهم.

• في ألمانيا، وقر في الأذهان أن حزب هتلر النازي أحرق مبنى البرلمان الألماني (الرايخشتاج). والحقيقة - كما يكشف المؤلف - أن الذي أحرق البرلمان، كما كشفها المؤرخ الإنجليزي الأشهر ج. تايلور، مواطن هولندي كان معارضاً للحزب النازي نفسه، واسمه فان دير لوبي، وقد حوكم الرجل وجرى إعدامه.

وحين يعرض الكتاب للشعارات الشهيرة المنسوبة، كما يرى المؤلف، إلى السياسي البريطاني ونستون تشرشل، فهو يتعامل مع هذه المقولات بقدر من برودة البحث العلمي كما قد نَصِفها: «تشرشل صار مشهوراً بشعاره العتيد مخاطباً مواطنيه الإنجليز قائلاً عند دخول الحرب العالمية الثانية: لا أعدكم إلا بالدم والعرق والدموع».

ومؤلفنا يعلّق: «إن هذا لم يكن من ابتكارات تشرشل، بل لقد اقتبسه، أو بالأدق سرقه، من أشعار لورد بايرون (القرن 19) وبايرون نفسه مارس السرقة الشعرية نفسها من سلفه الشاعر جون دون (القرن 18)».

وبالمقياس ذاته، فإن تشرشل لم يبتكر عبارة «الستار الحديدي» كما نسبوها إليه أيضاً وصفاً للاتحاد السوفييتي، ولكن العبارة سبق أن ترددت قبل تشرشل على لسان أكثر من شخصية عامة: الستار الحديدي (Iron Curtain)، سبق أن ستخدمها غوبلز وزير دعاية هتلر في عام 1945، ومن قبله ليدي سنودون الإنجليزية في عام 1920، ومن قبلهما ملكة بلجيكا في عام 1914.

ولا يزال التاريخ حافلاً بالحكايات، منها ما هو مُثبت وحقيقي، ومنها ما لا يزال في حكم الأسطورة السائغة أو الوهم الشائع، لكنه وهم سائغ ولذيذ.

الكتاب: الأساطير والأكاذيب.. والخرافات الجذابة في تاريخ العالم

المؤلف: ريتشارد شنكمان

الناشر: مؤسسة هاربر- كولنز

الصفحات:

300 صفحة

القطع: المتوسط

Email