حكاية 33 عاماً في خدمة السخرية المتلفزة في الولايات المتحدة

ليترمان.. آخر عمالقة مذيعي الكوميديا

ت + ت - الحجم الطبيعي

في سنة 2011، فوجئ الوسط الصحافي في الولايات المتحدة، بخطوة مستجدة اتخذتها جريدة الـ«نيويورك تايمز» التي تعد أهم موقع صحافي من حيث نشر وتحليل الأخبار السياسية التي تتناول قضايا العالم ومشاكل العصر.. سواء في داخل أميركا أو على مستوى العالم بشكل عام. إذ قررت، حينها، استحداث منصب يشغله صحفي مهني متخصص في شؤون «الكوميديا». واختارت الصحفي الشاب جاسون زينومان (41 سنة) لكتابة عمود أسبوعي يتولى في سطوره متابعة وتغطية ما يجري في ساحات الكوميديا، سواء فوق مسارح الملهاة أو في أفلام السينما أو على شاشات التلفاز، فضلاً عن إنتاج المؤلفين والكاتبين في مجالات الإبداع الهادف إلى إثارة الضحك أو على الأقل الابتسام في نفوس المستقبلين، وخاصة في زمن راهن مفعم بكل ما يجلب التشاؤم ويقصي البسمة وينفي إمكانية الضحك، بعيداً عن نفسيات البشر وجوانب حياتهم.. وهم محاصرون ما بين أزمات الاقتصاد وتعقيدات السياسة، وما بين ويلات الحروب فإلى قضايا تلوث البيئة وتغيرات المناخ.

وبعد أقل من 6 سنوات على تعيينه في الـ«نيويورك تايمز»، جاءت مطالع العام الحالي لتسلّط الأضواء على صحفي الكوميديا، زينومان، بعد أن أصدر كتاباً لا يزال يشغل اهتمامات النقاد والمحللين. ويحمل الكتاب العنوان التالي: ليترمان.. آخر عمالقة آخر الليل.

وكان بديهياً أن يضم غلاف هذا الكتاب الذي نلقي عليه أضواءنا في هذه السطور، صورة المذيع الفنان دﻳفيد ليترمان وقد اكتسى وجهه بابتسامته العريضة التي اعتادت عليها جماهير مشاهديه على مدار سنوات. جاء الكتاب أيضاً وكأنه رسالة تفيد بضرورة ألا يقتصر أمر الخدمة الصحفية أو الدرس أو النقد المتعمق على قضايا السياسة أو الاقتصاد أو البحث العلمي، فالمطلوب أيضاً هو توسيع دائرة الاهتمام لتشمل الفن، فما بالنا بفن البث والتقديم المتلفز ناهيك عن أن يندرج الأمر في خانة الكوميديا. والمعنى البديهي من هذه النوعية الجادة من الكتب يتمثل في أن الكوميديا ـ الفكاهة، ليست بالأمر البسيط إذا ما تم تناولها وإبداعها وتقديمها من منظور المسؤولية المهنية ـ الاجتماعية بطبيعة الحال.

وتلك مقولة تتأصل في جذورها لترجع ـ كما هو معروف ـ، إلى فجر الفن المسرحي عند الإغريق، حيث دخلت إلى حيز الخلود أعمال تتراوح إيقاعاتها ما بين التراجيديا المأساوية، التي أبدعها سوفوكليس، مثل (مأساة أوديب)، وصولاً إلى الأعمال الكوميدية التي أبدعها أريستوفان، مثل (ملهاة الضفادع).

وبقدر ما شهد المسرح والسينما مع سنوات القرن العشرين التراجيديات المعاصرة في سينما هوليوود ومسارح برودواي ولندن وباريس، حظيت فنون الكوميديا الراقية والنافذة المعبّرة بشخصية فنان مطبوع هو شارلي شابلن (1889-1977) الذي تحوّل بالكوميديا من مجرد غرض التسلية والإضحاك، إلى مستوى أرقى وأكثر فعالية، حيث تتجلى جوانب التهكم (Sarcasm) النافذ إلى الأعماق، بفضل ما يعرض له العمل الكوميدي من تناقضات الحياة قبل أن يكتفي بسهولة عرض جوانب السخرية (Satire).

استناداً إلى هذه الخلفيات يمضي كتابنا إلى عرض وتعميق شخصية «ليترمان»، الذي ظل يطالع الملايين من جماهير مشاهديه في أميركا وخارجها، في ساعات الهزيع شبه الأخير من الليل (بعد نشرة أخبار الحادية عشرة المسائية)، واستمرت هذه الإطلالة على مدار 22 عاماً هي تلك الفاصلة بين بداية ظهوره في عام 1993 وحتى وقت قراره بالتنحي أو التقاعد من الظهور على قناة «سي. بي. إس» وهو في أوج شهرته، وذلك في العام 2015 تحديداً.

ومرة أخرى، لم تكن مهمة هذا المذيع الساخر - كما قد نسميه ــ بالأمر الممهد أو الميسور على امتداد هذه الأعوام، وكان قد سبقها أيضاً عمله في قناة أخرى، وهي إن بي سي منذ عام 1982. ويرجع ذلك في تصورنا وتصور مؤلف هذا الكتاب إلى اثنين من التحديات: أولاً، تحدّ عمومي يتمثل في التركيبة السيكولوجية بل والانفعالية. وثانياً، المزاجية التي آلت إليها أمور الجيل الذي بدأ نشاطه مع العقدين الأخيرين ولا يزال نشاطه مستمراً بصورة أو بأخرى حتى كتابة هذه السطور.

وفي الصدد، تشير دراسة محورية نشرها باحث أميركي دارس في جامعة «ييل» المرموقة، يدعى دﻳفيد ﻠﻴفيت، حملت عنوان «الجيل الجديد.. الضائع». وفي سطور الدراسة يذهب كاتبها إلى أن جيله الذي ألمحنا إليه، جاء مع حقبة الرئيس ريغان ليشهد ضياع المثالية التي كانت خلال عقد الستينيات من القرن الفائت، وتجلت في صورة آمال التطلع الإيجابي إلى وعود المستقبل. بل ضاعت من قاموسه همّة النضال لنصرة القضايا الكبرى، على نحو ما كان معهوداً لدى من عاشوا في عهود سبقت. وبعدها تسجل الرسالة المذكورة أعلاه ما يشبه الحكم النهائي حين تقول في سطورها: إن صوت جيلي هو صوت دﻳفيد ليترمان.

.. أما التحدي الآخر الذي واجه مذيع الكوميديا، والذي تدور حوله مقولات هذا الكتاب، فكان يتمثل في أن ليترمان جاء إلى الشاشة بعد اعتزال جوني كارسون. وكان سوبر نجم في مجال السخرية الضاحكة نفسها، على شاشة التلفاز، وكانوا يشبّهون برامجه بأنها «أعمال من ذهب»، فيما كان يتعين على ليترمان أن يصمد أمام ذكريات هذا التحدي كي يُثبت نفسه لدى جماهير المشاهدين، لا بالتصرفات أو الحركات الهزلية ولكن بالوقوف ملياً وبقدر من التعمق التحليلي عند مفارقات الحياة وسخريات الأقدار وتناقضات السلوك البشري على نحو ما كان يتجلى، ليس على مستوى المواطنين العاديين فقط، بل على مستوى أهل الحل والعقد القابعين عند قمم المسؤولية على حد سواء.. فهنالك كان يتجلى الفارق بين هزل المهرج (Clown)، وبين حصافة الكوميديان المطبوع والموهوب، أو على نحو ما وصفه مؤلف الكتاب: إن فطرته الكوميدية كانت تدفعه إلى أن يسخر ويتعامل بمنطق التصغير (التحجيم بعيداً عن التهويل)، أياً كانت العوالم أو الأوساط التي يعيش فيها أو يعرض لها.

الكتاب:

ليترمان.. آخر عمالقة آخر الليل

المؤلف:

جاسون زينومان

الناشر:

دار هاربر للنشر

الصفحات:

345 صفحة

القطع:

المتوسط

Email