عصابات وجرائم جعلت دول الكاريبي ضعيفة

«تاريخ من العنف».. الحياة والموت في أميركا الوسطى

ت + ت - الحجم الطبيعي

غائلة الإرهاب تجتاح مواقع شاسعة ومتباينة من خارطة العالم. وكان طبيعياً أن تخضع هذه الآفة من مواقف وسلوكيات العنف الدموي للعديد من الدراسات والتحليلات، فضلاً عن الجهود السياسية والعمليات العسكرية الرامية إلى إحباط مخططات هذا المدّ اللاإنساني الذي بات يهدد البشرية جمعاء.

لكن هناك بقعة بعينها من بقاع العالم، لا تزال تواجه موجات من العنف الدموي، من دون أن يندرج هذا العنف تحت التصنيف المتعارف عليه بشأن الإرهاب. والحديث هنا عن منطقة تحمل الاسم التالي: أميركا الوسطى.

وهي بداهة ليست أميركا الشمالية (الولايات المتحدة + المكسيك ثم كندا)، ولا أميركا الجنوبية (وتعرف أيضاً بصفة اللاتينية). إنها منطقة بيْن بيْن كما قد نقول: تشغل ساحات القوس البّري المطل على مياه البحر الكاريبي، وتضم على متن مياه البحر المذكور، عدداً من الدول الجِزْرية التي اشتهرت منها «كوبا» الجزيرة الكاريبية التي استطاع شبابها منذ أواخر الخمسينيات في القرن الفائت، 1959 على وجه التحديد، أن يضعوها على خارطة الاهتمام والشهرة في عالم ذلك الزمان، وكان في طليعة هؤلاء الشباب كل من فيديل كاسترو الذي رحل عن نحو 90 عاماً، فضلاً عن ارنستو تشي غيفارا الذي أصبح رمزاً للتغيير الثوري في شتى بقاع المعمورة.

آفة أميركا الوسطى، كما يراها أهل المنطقة المذكورة، كانت محل دراسة تحليلية في كتاب صدر باللغة الإسبانية السائدة في أغلب بقاع المنطقة المذكورة بقلم الصحفي الشاب أوسكار مارتينيز، وقد اختار للكتاب مترجموه العنوان المباشر التالي: «تاريخ من العنف»

ثم استكملوا عبارات الغلاف من واقع/العنوان الأصلي بالإسبانية وهو:

• الحياة والموت في أميركا الوسطى.. الهجرة من أجل النجاة.

ولأن المؤلف حريص على الالتزام بمنهج الدرس والتحليل، فهو ينطلق منذ الفصول الأولى، إلى حيث يؤكد أن استمرار تيارات الهجرة من أميركا الوسطى باتجاه جيران الشمال في الولايات المتحدة لا يصدر فقط عن مجرد الرغبة الإنسانية في معيشة أفضل أو مكاسب أكثر.. أو ترف وأبهة أوسع نطاقاً. المؤلف يؤكد في دراسته أن أهل أميركا الوسطى، إنما يسعون إلى الهجرة فراراً من الموت وطلباً للنجاة من جحيم العنف الدموي الذي ما برح يجتاح الأقطار التي يعيشون فيها.

والحاصل أن طروحات هذا الكتاب فرضت على مؤلفنا، لا أن يدون أفكاره ويسجل آراءه وملاحظاته من موقع الدرس والتدوين في غرفة مكتبه المنزلية، بل إن العكس هو الصحيح.

فأوسكار مارتينيز آل على نفسه أن يقتحم أستار العالم السفلي في عواصم أميركا الوسطى، من نيكاراغوا إلى كوبا، ومن هندوراس إلى بنما وغيرها.. منبشاً في عوالم العصابات الجهنمية (Gangs): مافيات الكاريبي الناطقة بالإسبانية، حيث عكف المؤلف على بحث وعرض وتصوير ما أصبح النقاد يطلقون عليه الوصف التالي: حقول الاغتيال.

وهو الوصف القديم ذاته، الذي سبق وطرحوه دلالة على ما كان يحدث في ساحات جنوب شرقي آسيا خلال حرب فيتنام. ومن ثم يلاحظ قارئ الكتاب أن المؤلف لم يكتف بمجرد اتباع منهج الصحافة الاستقصائية (Investigative) في إعداد مادته. وإنما نجح مؤلفنا في تحويل هذا العمل من مجرد تحقيق صحافي دقيق وناجح إلى حيث أصبح دراسة علمية متعمقة لظاهرة بالغة الخطورة من ظواهر عالمنا، فيما تحقق هذا الإنجاز بفضل الجمع الواعي بين التحقيق الصحافي وبين الاستقصاء التاريخي في منطقة طالما خضعت للهيمنة الإسبانية، ثم أصبحت من مناطق النفوذ بالنسبة للولايات المتحدة، وخاصة بعد أن أعلن جيمس مونرو الرئيس الأميركي رقم 5، هيمنة أميركا على النصف الغربي من كرة الأرض (هيميسفير) طبقاً لما تعرفه أدبيات السياسة الأميركية باسم مبدأ مونرو، وكان ذلك في عشرينيات القرن التاسع عشر.

ويدرج المؤلف، لتبيان تدهور أحوال الأمن واتساع نطاق الرعب في أميركا الوسطى، إحصائية واضحة الخطورة يستقيها من إحدى دولها، وهي السلفادور. ومما جاء فيها:

• وصل حجم حالات جرائم القتل في السلفادور إلى معدل 103 حالات لكل 100 ألف من السكان، وهو ما يعد - كما يؤكد المؤلف - أعلى نسبة من نوعها في العالم. وإذ يواصل المؤلف بحوثه وخطوات تعمقه وأحياناً تورطه في تلافيف عالم العصابات اللاتينية المخيف، فهو لا يتورع عن القول بأن كثيراً من عصابات القتل والخطف والتهديد والتهجير إنما يربط أفرادها خيوط تحتية مع دوائر من الشرطة في هذه الحكومة أو تلك. ومن أفراد العصابات الذين التقاهم واستقى منهم جزءاً من معلومات الكتاب مَن لا يزال يعيش في حال من القنوط التام مقتنعاً بأن مصيره هو القتل بعد أن يستنفدوا أغراضهم منه في نهاية المطاف، وهو الذي طالما قدم للشرطة خدمات لا تنسى بقدر ما كان باهر البراعة - كما يؤكد المؤلف - في الإيقاع بالضحايا، ولدرجة أن ظل الجميع يعرفونه بالوصف التالي: فتى هوليوود.

Email