أزمة الطبقة الوسطى واللامساواة القاتلة

ظاهرة تهدد شريحة كانت نبع الإبداع والابتكار

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يزال التاريخ يؤكد، بل يثبت، أن الطبقة الوسطى طالما كانت صانعة التقدم ورائدة التغيير على مرّ مسيرة البشرية عبر الزمن: منها خرج ونبغ وتألق المفكرون والمبدعون والمخترعون والمجددون والمبتكرون. ذلك رغم ما عصف ويعصف بها من أزمات. تلك هي الحقيقة التي تتردد أصداؤها عبر صفحات واحد من أحدث الكتب الصادرة أخيراً في أميركا، تحت عنوان: «أزمة دستور الطبقة الوسطى». والمؤلف هو المفكر الأميركي غانيش سيتارامان، أستاذ علم القانون في جامعة «ييل» بالولايات المتحدة، إذ يصدر هذا الكتاب في سياق معالجة قضايا حول فكرة مبدئية تقول:

إن وجود طبقة وسطى قوية ومؤثرة وكبيرة الحجم، يشكل أمراً أساسياً يقتضيه وجود و(فعالية) نظام دستوري يُعتد به في أميركا.

والمؤلف يؤكد في هذا المنطلق على أن دستور أميركا.. الصادر بالطبع مع أواخر القرن الثامن عشر، جاء على خلاف معظم الدساتير المقارنة ليشدد على عنصر المساواة الكاملة بين مواطني بلد مستجّد على خارطة العالم كان يعرف باسم «العالم الجديد» وأصبح اسمه الولايات المتحدة الأميركية.

ثم يمضي الكتاب موضحاً أن مفكري ومصممي الدساتير ظلوا يفترضون أن اللامساواة الاقتصادية، بين الفقر والغنى.. وبين العَوَز واليسار. هي أمور محفوفة بحكم تقسيم المجتمعات إلى الذين يملكون والذين لا يملكون.. وكان أن حرص المفكرون الكلاسيكيون على رسم المسار من أجل قيام نظم وحكومات تكون مهمتها الحيلولة دون أن تتحول هذه الانقسامات إلى جذور دوافع محرِّضة على الصراع الطبقي، وأسباب تدعو إلى تعكير السلم الأهلي في مجتمعات الأمم والشعوب.

هنا أيضاً يوضح الكتاب أنه كانت تلك حال معظم حكومات وشعوب الكرة الأرضية. ولكن عندما تتطرق فصول الكتاب إلى أميركا نطالع التأكيد على تكريس حالة المساواة التي يذهب المؤلف إلى أنها كانت المبدأ الأساسي الذي «كان» يتصرف وفقه جيل الآباء المؤسسين للكيان الأميركي.

ثم يخلص المؤلف من هذا الرصد العلمي الذي تؤكده مقولات الكتاب إلى التحذير من أن تزايد اللامساواة، تشكّل ظاهرة سلبية تمس الطبقة الوسطى على وجه التحديد، لا سيما وأنها الطبقة المسؤولة عن إدارة دفة الحياة في مجتمع أميركا، بل وفي أي مجتمع بشري معاصر، وبحيث تجمع هذه الإدارة على نحو ما أسلفنا الإشارة إليه، بين عناصر التجديد الاجتماعي والإبداع الثقافي والابتكار العلمي وهو ما يفسره السؤال الذي عمد مؤلفنا إلى طرحه ضمن سياق عنوان الكتاب وفي عبارة موجزة تقول بالتالي:

لماذا تشكل حالة اللامساواة الاقتصادية تهديداً لجمهوريتنا؟

وهذا سؤال بلاغي (Rhetorical)، كما تقول علوم البيان في اللغة الإنجليزية.. بمعنى أنه أقرب إلى التساؤل الذي يطرح الظاهرة في إطار من التأمل، بل والتحذير دون انتظار للجواب. ومن هنا يذهب البروفيسور أنغوش ديتون، الحائز جائزة نوبل العالمية في الاقتصاد - في نقده التحليلي لهذا الكتاب - إلى أن ما يحذر منه مؤلفنا بشأن تراجع دور الطبقة الوسطى في المجتمع الأميركي ليس مجرد جرس إنذار من مغبة الافتقار إلى عدالة توزيع موارد المجتمع المذكور، بل إن الأمر يفضي إلى حالة أشد خطورة تلخصها كلمات الاقتصادي المرموق السالف ذكره فيما يلي:

المسألة ليست مجرد افتقار للإنصاف، إذ باتت اللامساواة تشكل تهديداً لمبدأ الحكم الرشيد ذاته.

وبناء عليه، يظل الاهتمام، كما يشدد كتابنا، مركزاً على أهل الوسط - الطبقة البورجوازية كما يسمونها أحياناً -، باعتبارهم العنصر الكفيل بالحفاظ على حالة التواؤم، التوافق، الانسجام الاجتماعي وهو ما يكفل للمجتمع الأميركي، ولأي مجتمع معاصر إمكانيات الأخذ بأسباب «الحوكمة» (governance). وهي الحكم الرشيد كما أصبحت تعرف في جنبات عالمنا.

Email