الخطر الإشعاعي لـ«سلة القاذورات البيئية العالمية» لا يزال ماثلاً

المنطقة المحظورة.. «تشيرنوبيل» وخفاياه المقلقة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل ثلاثة عقود من الزمن استفاق العالم يوم 28 أبريل من عام 1986 على وقع الإنذارات من كارثة نووية كبيرة مهددة. كان ذلك عقب الانفجار الذي عرفه المفاعل النووي الروسي ــ السوفييتي آنذاك ــ في تشيرنوبيل ووصلت غيومه «المشعّة» إلى العديد من بلدان أوروبا الغربية.

وحددت السلطات يومها منطقة شاسعة تمتد على مساحات شاسعة تحيط بذلك المفاعل على بعد 30 كيلومتراً من موقعه وتغطي مساحة 2000 كيلو متر مربّع، أي ما يعادل مساحة دولة اللوكسمبورغ الأوروبية، اعتبرتها «منطقة محظورة». وأصبحت تتم الدلالة عليها بـ «المنطقة» وتعني ضمناً «المحظورة»، وهي لا تزال «محظورة» حتى اليوم.

تلك المنطقة المحظورة غدت مقفرة بعد أن هجرها السكان الذين عاشوا فيها منذ أزمنة طويلة إلى هذه الدرجة أو تلك، وبعد أن تمّ منع الآخرين من ولوجها. لكن هذه القاعدة الثانية الخاصّة بـ «الحظر» جرى خرقها من قلّة من البشر.

وفي عداد هؤلاء «ماركيان كاميش»، الصحافي والكاتب الأوكراني الذي كان أبوه من ضحايا الإشعاعات النووية، حيث تطوّع بعد الانفجار مباشرة إلى فرق «نزع آثار الإشعاعات النووية» مع عدد من رفاقه وتوفي بعد سنوات من ذلك. وعندما عاد إلى المنزل غدت «تشيرنوبيل» حاضرة في جميع أحاديث ذلك الأب مع أصدقائه وزائريه.

وكان المؤلف الشاب قد خرق «الحظر المضروب» على منطقة تشيرنوبيل للمرّة الأولى عام 2010، وعاد إليها «سرّاً» بعد ذلك مرّات ومرّات ــ 20 مرّة في العام، كما يشير ــ وأمضى فيها بالإجمال أكثر من 200 يوم. ومن خلال تلك التجربة خرج بهذا الكتاب الذي اختار له عنوان «المنطقة»، وما يعني «المنطقة المحظورة».

يشير المؤلف أنه من مواليد عام 1988، وأنه سمع كثيراً أثناء طفولته المبكّرة اسم «تشيرنوبيل» التي كانت بالنسبة له ذات «دلالة غائمة» و«محاطة» بـ«الكثير من الأسرار». ذلك أنه لم يكن يدرك ما تمثّله من آلام آنذاك. نقرأ: «أصبحت المنطقة نوعاً من المكان الذي يحلم فيه أولئك الذين وُلدوا بعد حادث انفجار مفاعل تشيرنوبيل».

لقد كانت كارثة تشيرنوبيل غائمة الدلالة في فهم الطفل «ماركيان»، لكن الكلمة بقيت ماثلة في أعماق ذاكرته. ثم «استفاقت» بقوّة من جديد إثر رحيل أبيه الذي تدهورت صحّته من جرّاء الإشعاعات التي تعرّض لها أثناء مشاركته مع رفاقه المتطوعين بمحاولة «إطفاء الحريق النووي».

ويكرّس المؤلف بعض الصفحات للحديث عن «بطولة» ذلك الأب، مشيراً أنه لولا العمل الإنساني والوطني الكبير الذي قام به، هو ورفاقه، ربما كان توجّب نقل أعداد كبيرة من السكان، بما في ذلك سكان مدينة كييف نفسها، إلى أماكن أخرى من الأراضي الأوكرانية أو غيرها.

يشرح «ماركيان كاميش» أنه، بعد فترة من تجاهل كل ما يتعلق بتشيرنوبيل ومأساتها خلال سنوات المراهقة، عادت لتسكن مساحة اهتمامه كاملة وهو في بداية سن العشرينات. هذا مع تحديده القول إن ذلك لم يكن بدافع «الحنين إلى الماضي» أو «محاولة شرح ما جرى» أو حتى «البحث في المشكلات المترتبة على العالم النووي ونتائجه على البشر».

لكن وجد المؤلف نفسه مدفوعاً بالأحرى، كما يشير، برغبة «اكتشاف أسرار تلك الأرض المجهولة» التي غدت تمتلك بالنسبة له «قوة جذب كبيرة». يكتب «لقد غدت أرض استراحتي. إنها أخذت مكان البحر وجبال الكاربات وتركيا (...). لقد أصبحت أقصدها سرّاً عشرين مرّة في السنة».

ويحدد القول: «كنت أحضّر أشيائي الضرورية التي أحملها على ظهري وأدخل المنطقة المحظورة، زحفاً، من تحت الأسلاك الشائكة كي أختفي بعدها في أعماق غابات بوليزيا، حيث تفوح رائحة أشجار الصنوبر، وحيث كنت أصادف بعض الذئاب». وكان الهدف هو «استنشاق ولمس كل ما تحتويه تلك الأرض الملوّثة والبحث عن كل نتفة تنتمي إلى الماضي القريب الذي عرفته».

والتأكيد بالتوازي أنه بدأ يفهم بعض «أسرار المكان» بعد سنوات من البحث والتنقيب. وأنه في الفترة الأولى كان يتردد على المكان من أجل إجراء «تحقيقات صحافية» ذات طابع مهني. لكن مع مرور الوقت والتعرّف أكثر على المنطقة غدت زياراته هي بـ«الأحرى من أجل الكتابة عن المنطقة التي غدت بمثابة مصدر إلهام».

يشرح المؤلف أن الكتابة عن المنطقة، وأية منطقة، يتطلّب بالضرورة فهمها والتخلّص من «السحر» الذي تمارسه على المعني بها. وهذا ما عرفه بعد أن «توقف عن رؤية المنازل المهجورة، وعندما تمكّن من التمييز بين الصور والروائح وكثافة الهواء بالمقارنة مع الأمكنة الأخرى». والتأكيد «أن انفعالات اللقاء الأول لا تساوي شيئاً».

ومن الممارسات التي يؤكّد عليها المؤلف بأشكال مختلفة بالاعتماد على تجربته الشخصية في «المنطقة المحظورة» أن جميع أولئك الذين يلجون مثل هذه «المغامرة» يعانون من «الخوف من الإشعاعات في البداية». لكن سرعان ما يتلاشى بعد ذلك خوفهم و«ينسون الإجراءات الوقائية الأوليّة».

ولا يتردد «ماركيان كاميش» في التأكيد أنه بعد زيارات عدّة أصبح «في غاية الهدوء»، مؤكّداً أنه «بكل الأحوال ومهما كان مستوى المعلومات ينسى سريعاً مَن يمضي بعض الوقت في المنطقة المحظورة إجراءات الوقاية. ويشرب من مياهها ويغتسل بها ويتغذّى بالفطور من أرضها. هذا غباء بالتأكيد، لكن لا أحد يستطيع تجنّب ذلك».

بل ويشير إلى أنه أصبح لا يفكّر بالوقاية قبل الشروع بكل زيارة لتلك المنطقة «أحد المناطق الملعونة في العالم».. يبقى مكمن الخطر الحقيقي الكبير للإشعاعات النووية في نشوب الحرائق، كما يحدد المؤلف القول. ذلك أنه «مع نشوب الحريق تتحرر السموم».

وكتاب في الذكرى الثلاثين لانفجار المولّد الرابع في مفاعل تشيرنوبيل في شهر أبريل من عام 1986. والكثير من المعلومات عن المنطقة المحظورة منذ ثلاثين سنة. منطقة زاخرة بكل ما يعنيه تعبير «سلّة القاذورات البيئية» وبالوقت نفسه «أرض الصفاء الطبيعي التام».

المؤلف في سطور

ماركيان كاميش صحافي وكاتب شاب من أوكرانيا. يساهم بالكتابة في العديد من الصحف، وخاصّة عن منطقة المفاعل النووي الروسي تشيرنوبيل الذي انفجر أحد مولّداته في عام 1986. هذا العمل هو كتابه الأول ويصدر بمناسبة الذكرى الثلاثين لمأساة تشيرنوبيل.

الكتاب: المنطقة المحظورة

تأليف: ماركيان كاميش

الناشر: ارتو، باريس ــ 2016

الصفحات: 172 صفحة

القطع: المتوسط

Email