ذهنية واكبت تحقيق المشروع الإمبريالي والإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس

الفشل البطولي والإنجليز.. هوامش الذاكرة والتمجيد الجماعي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من المعروف أن مختلف الأمم تحتفل بأبطالها المنتصرين في المعارك أو في مختلف ميادين الحياة ونشاطاتها. لكن لا يخفى على أحد أن هناك الكثير من الذين قاموا «تاريخياً» بعمليات بطولية ولكنهم ظلّوا في هوامش الذاكرات الجماعية للبلدان والأمم المعنيّة بهم.

في مثل هذا السياق يتميّز البريطانيون بأنهم يذكّرون بمختلف السبل بأولئك «الأبطال الذين فشلوا في تحقيق أهداف المهمّات التي وضعوها أمامهم».

المؤرّخة الأميركية «ستيفاني بارزويسكي»، أستاذة التاريخ في جامعة «كلمسون» بكارولينا الجنوبية، تكرّس كتابها الأخير لشرح هذه العلاقة، كما تعامل معها البريطانيون، من «الفشل البطولي والإنكليز»، كما يقول عنوانه.

السلوك النبيل

وتشرح المؤلفة ــ المؤرّخة على مدى صفحات الكتاب التي تقارب ثلاثمئة صفحة كيف أن البريطانيين أرادوا منذ قرون أن يثبتوا أنهم يملكون قدراً كبيراً من «السلوك النبيل» عبر الاحتفاظ بذكرى أولئك الذين كان لهم سلوك بطولي بغضّ النظر عن نتائجه، وهذه هي الأطروحة التي تطوّرها في هذا العمل مما يبدو نوعاً من «المفارقة» في الربط بين «الفشل» و«البطولة».

تكتب: «لقد غدا الانتصار ــ بالنسبة للبريطانيين ــ دون أهميّة كبيرة. ذلك أن الفشل من موقع البطولة لم يعد مجرّد وسيلة لمواساة الذات من وقع الهزيمة، ولكنه أصبح بحدّ ذاته بمثابة مبدأ إيجابي». بهذا المعنى ينبغي فهم العنوان الرئيسي لهذا الكتاب.

وتعيد المؤلفة «زمنيا» تلك النظرة «الإيجابية» لدى البريطانيين لمسألة «الفشل البطولي» إلى القرن التاسع عشر وللمسارات التي عرفها المشروع «الإمبريالي» وبناء إمبراطوريتهم. ذلك أنه في إطار ذلك المشروع أدرك القائمون عليه ما له من «إيجابيات» زمن «السلبيات» تبعاً للسياق الذي كان يتم تنفيذه فيه.

وانبثقت في مثل ذلك السياق أيضا فكرة التركيز على جوانب «البطولة» حتى «الفاشلة» منها من أجل التغاضي عمّا كان يتم اقترافه في الكثير من الأحيان من سلوكيات بعيدة عن مفاهيم البطولة التي تمّ الحديث عنها. ذلك عندما اقتضى «المشروع التوسّعي الاستعماري» ذلك.

وفي مواجهة ذلك تركّزت الجهود على إظهار بريطانيا كأمّة حاملة لمشروع حضاري له أسسه الأخلاقية الذي يريدون حمله للعالم. وفي نفس الإطار إظهار الذين يحملونه ويقومون بتحقيقه بصورة «أبطال» حتى ولو «فشلوا» في تحقيق أهدافهم ودفعوا حياتهم ثمناً لذلك. وعلى رأس هؤلاء في السياق التاريخي البريطاني أولئك «المكتشفون» الذين جعلوا من التعرّف على العالم الذي يعيشون فيه هدفا أسمى بالنسبة لهم.

مشروع

من هنا سعى أصحاب ذلك المشروع «الإمبريالي» كي يبرزوا وجهه «الإيجابي». والإشارة أن التأكيد على «البطولة حتى في حالة الفشل أو في حالة النجاح المجزوء» كان يرمي إلى تثبيت فكرة «إيجابية» المشروع «الاستعماري» ذاته لدى الذين يستهدفهم، كما لدى الرأي العام البريطاني نفسه.

تنطلق المؤلفة في تحليلاتها من مشاهدة عاشتها هي نفسها. وتتمثل في تلك الصروح التاريخية المنصوبة في «ساحة واترلو» بلندن. أولئك الذين يحملون أسماء مثل «السير جون فرانكلين» و«روبير فالكون سكوت».

وفي عداد أولئك الذين يعتبرهم التاريخ الإنكليزي في مصاف الأبطال هناك ديفيد ليفينغستون الذي أخطأ في الدلالة على «منبع نهر النيل»، و«الجنرال شارل غوردون» الذي واجه هزيمة كبرى عندما كان يقوم بتنظيم عملية «الجلاء عن الخرطوم».. وغيرهم.

فمن هم واقعياً أولئك «الأبطال»؟

«جون فرانكلين»، مكتشف بريطاني توفي عام 1748 في إحدى رحلات الاكتشاف البحري. بدأ حياته بحّاراً في إحدى السفن التجارية. ساهم في العديد من الحملات نحو الشواطئ الشمالية لأميركا ورسم العديد من الخرائط لتلك المناطق. لكنه «فشل باستمرار» في اكتشاف «الممر من شمال أميركا إلى غربها». من هنا يتم تصنيفه من قبل المؤلفة في عداد من ينطبق عليهم توصيف «الفشل البطولي».

العصر الذهبي

وروبير فالكون سكوت كان أحد ضبّاط البحرية الملكية البريطانية وأحد الذين حاولوا اكتشاف المناطق القطبية، ويتم اعتباره من الشخصيات الرئيسية في العصر الذهبي للاكتشافات البريطانية. تلك الاكتشافات التي ارتبطت في واقع الأمر مع مشاريع التوسّع التي تجسّدت في نشوء إمبراطورية مترامية الأطراف تبعت للتاج البريطاني.

في عام 1912 كان «سكوت» على رأس مجموعة من المكتشفين مؤلفة من خمسة بحّارة حيث وصلوا إلى القطب الجنوبي. اعتقد أنه أوّل الذين اكتشفوا ذلك القطب، لكنه أدرك أن فريق اكتشاف نرويجي بقيادة «روالد اموندسن» قد سبقه إلى ذلك قبل أسابيع قليلة. توفي «فالكون سكوت» وهو في طريق عودته من القطب الجنوبي بسبب «البرد والإنهاك والجوع».

ما تؤكّده المؤلفة هو أن البريطانيين يبرزون تعلّقهم بأبطالهم أكثر من جميع الشعوب الأوروبية الأخرى. والمقارنة في هذا السياق بين حجم «التعظيم» الذي قاموا فيه بالنسبة للجنود البريطانيين الذين قضوا في حرب «القرم» بينما كان أداؤهم في المعارك «قمّة في إظهار عدم الكفاءة» وبين مدى «النسيان» الذي يبديه الفرنسيون حيال جنود جيش نابليون الذي عرف هزيمة شنعاء بمواجهة الجيش البريطاني في معركة «واترلو» الشهيرة.

وكتاب تعود فيه مؤلفته، المؤرّخة الأميركية، إلى دراسة الذهنية البريطانية التي واكبت تحقيق المشروع الإمبراطوري الذي شمل الهند ومناطق عديدة أخرى من العالم. وهي تعتمد فيه نظرية تؤكّد فيها أن الإنكليز رفعوا آنذاك عن وعي شعار«الفشل البطولي» لتقديم أنفسهم بـ «صورة حضارية» عبر إعطاء الأهمية لـ «السلوك البطولي» ورفعوا أصحابه إلى مصاف الأبطال الحقيقيين.

وتشرح المؤلفة ــ المؤرّخة عموماً أن البريطانيين بتمجيدهم لـ «السلوك البطولي»، ربما أرادوا أن يقدموا للإمبراطورية التي بنوها في الهند وغيرها وأبعد منها للثقافة الإنجليزية صورة «عادلة وأخلاقية». وفي جميع الحالات يتم التأكيد أننا «جميعاً نحب أبطالنا الذين رحلوا».

المؤلفة في سطور

ستيفاني بارزويسكي مؤرّخة أميركية تعمل أستاذة لمادة التاريخ في جامعة «كليمسون» في كارولينا الجنوبية بالولايات المتحدة الأميركية، من مؤلفاتها «تيتانيك: ليلة للذكرى» وغيره.

Email