تاريخ اجتماعي للمدينة من خلال أوّل فنادقها الفخمة

منتصف الليل في بيرا بالاس.. ولادة إسطنبول الحديثة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تشتهر مدينة اسطنبول التركية وعاصمة الإمبراطورية العثمانية سابقاً أنها من أجمل مدن العالم وأكثرها عراقة وحيوية أيضاً. ومن أكثر أسرار جمالها تأكيد أولئك الذين عرفوها أنها نموذج رائع لتفاعل الحضارة الغربية الأوروبية والحضارة الإسلامية. هذا إلى جانب أنها ملتقى عدد كبير من الطرق البريّة والبحريّة تاريخياً والجويّة اليوم.

وتتمتع مدينة اسطنبول بوجود الكثير من المعالم التاريخية التي تدل على حضارة عريقة، ومن بين تلك المعالم العريقة هناك فندق «بيرا بالاس» التاريخي ــ بيرا بالاس جميرا اليوم ــ الذي بدأ الزائرون من مختلف أصقاع العالم بارتياده منذ عقد التسعينيات في القرن التاسع عشر.

وهذا الفندق هو الموضوع الأساسي الذي ينطلق منه شارل كينغ، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون الأميركية بواشنطن ومؤلف العديد من الكتب التي نالت شهرة كبيرة، كي يقدّم نوعاً من الدراسة الاجتماعية لآليات الانتقال من الإمبراطورية العثمانية إلى تركيا الحديثة.

ذلك بالتوازي مع التأريخ لمدينة اسطنبول الحديثة في مرحلة «مفصلية» في تاريخها، حيث كانت وجهة الكثير من كبار شخصيات العالم في مختلف الميادين. يحمل الكتاب عنوان «منتصف الليل في بيرا بالاس» وعنوانه الفرعي هو «ولادة مدينة اسطنبول». للإشارة كان هذا العمل قد عرف طبعته الأولى عام 2014 وعرف الترجمة إلى عدّة لغات عالمية.

أول فندق فخم

ويشير المؤلف بداية أن «بيرا بالاس» في اسطنبول كان أول فندق فخم تعرفه المدينة، وكان موجّهاً خاصّة للمسافرين الغربيين الذين كانوا يتوجهون عبر قطار الشرق السريع نحو الشرق. ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم لا يزال هذا الفندق أحد المعالم الأساسية في مدينة اسطنبول.

والأسماء التي يذكرها المؤلف بينها مشاهير من أمثال «أغاثا كريستي وأرنست همنغواي وجون دوس باسوس وليون تروتسكي ــ الذي تردد على المدينة خلال سنوات 1929 وحتى 1933 - والكثير من المعماريين الكبار والموسيقيين والمفاوضين السريين والساسة والدبلوماسيين وكُثر غيرهم.

والإشارة في هذا السياق أيضا أن بعض عرف الفندق عرفها جيّدا كبار من عالم الفكر والسياسة وأصبح يُطلق عليها اسمهم للروّاد والزائرين. وليس أقل أولئك المشاهير نجوميّة مصطفى كمال اتاتورك الموصوف بـ«الأب المؤسس لتركيا الحديثة» وقبله السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وغيرهما.

تجدر الإشارة أن مؤلّف هذا الكتاب يولي اهتمامه الأساسي للحديث عمّا يسميه «ولادة اسطنبول»، ويقصد بالمقام الأول «اسطنبول الحديثة». وهو يعتمد على كمّ كبير من الصور للمدينة ولفندق «بيرا بالاس» غير المعروفة، حيث حصل عليها من مصادر مختلفة. وكل فصل من فصول هذا الكتاب يتم استهلاله بصورة مأخوذة من بعض الأراشيف الخاصّة.

نهج الحداثة

ويرى المؤلف في تجهيزات الفندق نفسها نوعاً من الدلالة على تبنّي نهج الحداثة. هذا ما تدل عليه «الرفاهية» في الأثاث والإضاءة وخاصّة «المصعد المصنوع من الخشب والمعدن»، على شاكلة المصاعد التي تمّ تزويد «برج ايفل» بها في العاصمة الفرنسية باريس. وفي ذلك الفندق تعاقب عازفو موسيقى الجاز وعازفو «العود» الشرقي الشهير

.ولا يقصر المؤلف توصيفه على «بيرا بالاس» باعتباره فندقاً يؤمّه الأجانب من مختلف الأصناف بما في ذلك «الجواسيس»، حيث إنه يقع في حي السفارات، بل يجده أيضا رمزاً لـ«حالة التحوّل في الذهنيات» التي شهدتها مدينة اسطنبول والتي تعني «تلاشي» حضور الإمبراطورية العثمانية وعهدها وقيمها، وبروز «تركيا الحديثة» بكل دلالاتها وقيمها وطموحاتها.

ويشرح مؤلف هذا الكتاب أن تركيا شهدت خلال الفترة الواقعة بين سنوات العشرينيات وسنوات الأربعينيات من القرن الماضي، العشرين، نوعاً من «الثورة الثقافية الحقيقية» في شتى الميادين، والتي لم يكن أقلّ رموزها شهرة وحضوراً في الذاكرة الجماعية التركية، بل والعالمية، شعراء وأدباء من أمثال ناظم حكمت وهالايد اديب ايديفار وغيرهما.

ويشرح «شارل كينغ» أن تلك الفترة أيضاً شهدت هجرة الكثير من اليهود الأتراك إلى فلسطين تلبية لنداء الحركة الصهيونية لمشروعها الاستيطاني الذي جسّدته لاحقاً «إسرائيل». بالمقابل يتقصّى المؤلف النشاطات التي قام بها عدد من سكان مدينة اسطنبول على المستوى الخارجي، العالمي. ذلك من أمثال الأخوين «ارتوغن» اللذين أسسا في نيويورك مجموعة «اتلانتيك ريكوردز» لصناعة التوزيع الموسيقي.

دور مهم

بالإجمال يرى المؤلف أن مدينة اسطنبول عموماً، و«بيرا بالاس» بشكل خاص، لعبا دورا في «تشابك خيوط» ما عُرف بـ«المسألة الشرقية» الناجمة عن «تكدّس النزاعات الحدودية وصعود الحركات القومية والانسدادات الدولية»، كما يكتب.

وعبر «بيرا بالاس» يقوم مؤلف هذا الكتاب ــ الأستاذ الأميركي للعلاقات الدولية بشرح بعض وجوه العلاقات بين الغرب والشرق. ويرى في هذا الفندق نوعا من «القلب النابض» لمدينة اسطنبول الحديثة حيث كان قد «عرف أيامه المجيدة في سنوات 1910 ــ 1920 عندما كانت لا تزال تتعايش قاطرات الترومواي مع العربات التي تجرّها الثيران».

لقد مثّل «بيــــرا بالاس»، كما يراه المؤلف، «أحد تعبيرات تجارب إعادة اختراع النموذج ــ الموديل ــ الغربي». وما يعبّر عنه بـتوصـــيفه كـ«آخر وشوشات الغرب على طـــريق الشرق». ومن التوصيفات التي يطلقها المؤلف على «بيرا بالاس» أنه كان أحد رهانات السلام والحرب في تركيا.

من هنا تعرّض عام 1941 لـ«انفجار قنبلة وضعتها أجـــهزة الاستخبارات البلغارية في حقيبة دبلوماسي بريطاني». في المحــــــصّلة العامّة، ومن خلال ما تعرّض له الفنـــــدق التاريخي الفخم وما عرفه من أحداث وتحـــــوّلات ونشاطات يتم التعرّض لولادة مدينة «اسطـــنبول» الحديثة من خلال «سيرة أوّل فندق فخم عرفته المدينة».

المؤلف في سطور

شارل كينغ هو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون في واشنطن. كان باحثاً لسنوات في جامعة أكسفورد وكذلك في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن. من مؤلفاته العديدة: «البحر الأسود: تاريخ» و«الأوديسّة: تكوّن وموت حلم مدينة» و«سياسة التطرّف: النزعات القومية والعنف ونهاية أوروبا الشرقية»..إلخ.

Email