ليست مجرّد بلد صناعي ونسيجها الثقافي والاجتماعي متنوع ومتباين

«دائماً إلى الشرق أكثر».. صورة كوريا الأعمق

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تحت عنوان «دائماً إلى الشرق أكثر» يروي الكاتب والجامعي الفرنسي بنجامان بيلوتييه، المختص بدراسة التفاعل بين الثقافات، قصة إقامته لمدة عام كامل في كوريا الجنوبية.

حيث قام بتدريس اللغة الفرنسية في تلك البلاد. ومن خلال تلك التجربة يدرس المؤلف في واقع الأمر المجتمع الكوري ويقدم هذه البلاد كما رآها لأولئك الذين لا يعرفونها أو لا يعرفون عنها سوى بعض المعلومات «المبعثرة» في الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام، وبالطريقة التي ترغب في رسمها بها.

هذا الكتاب هو إذن عن المجتمع الكوري الجنوبي بمختلف مظاهره وأنماط علاقاته وكيفية التعامل والتواصل معه وواقعه والصورة الخيالية التي يرسمها الآخرون له. وهو أيضاً كتاب عن كوريا الجنوبية، مدنها وقراها وسهولها وجبالها ومناخها وعلاقاتها مع جيرانها ومع العالم وفي العالم وعن التاريخ الكوري والعلاقة مع القسم الآخر من «شبه الجزيرة الكورية»، أي كوريا الشمالية.

ويشير المؤلف بأشكال مختلفة أيضاً أن الحديث عن كوريا ومحاولة التعرف إليها بـ «عمق أكبر» لا بد وأن يطرح على المعني بذلك الرغبة في فهم الأسباب العميقة التي أدت إلى تقسيم «شبه الجزيرة الكورية»، إلى «كوريتين» متباينتين ومتعارضتين، شمالية وجنوبية.

ويشير المؤلف في هذا السياق عن تجربة زيارته لأعلى قمة جبل في كوريا الجنوبية تطل على كوريا الشمالية. ذلك برفقة مجموعة من «السائحين» الكوريين الجنوبيين. وكانت دهشته كبيرة عندما لاحظ «غياب الانفعالات»، بل و«عدم الاهتمام أو التعاطف» الذي أبداه الكوريون الجنوبيون حيال «أشقائهم الشماليين وما يعانون منه من بؤس».

ومما يكتبه المؤلّف بعد زيارته للموقع المطل على كوريا الشمالية نقرأ: «سيقول أي كوري جنوبي بدعابة ما مفاده: لقد ذهبت اليوم لمشاهدة كوريا الشمالية وتناولت كميّة من البطيخ. كما يمكن أن يقول بنفس اللهجة: لقد ذهبت اليوم إلى السوق واشتريت بعض المعجّنات». وفي الحالتين «دون أي انفعال خاص».

ويريد المؤلف، كما يشير في بداية الكتاب، أن يدعو قارئه لـ«رحلة في كوريا» من خلال التعرّف إلى ذهنيّة الكوريين وطباعهم وأمزجتهم وأنماط حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم التي «تختلف كثيراً في الواقع عمّا هو سائد عنها في مخيّلة الثقافات الأخرى»، ويقصد بذلك الثقافة الغربية.

ومقابل ذلك يقترح بنجامان بيلوتييه ما يمكن اعتباره «رحلة سياحية وثقافية وتاريخية» بالإضافة إلى ما يقدّمه من «تأملات شخصية». وكذلك تقديم الكثير من الخصوصيات الثقافية والتراث الأسطوري والتقاليد الغريبة التي تزخر فيها كلّها كوريا والتي يجهلها إلى حد كبير العالم الخارجي عنها.

ومن خلال دراسة عادات وتقاليد وأنماط حياة وطرق تعامل الكوريين فيما بينهم وبين الآخرين، الغرباء، يقدم المؤلف نوعاً من «الحوار الداخلي» بين ثقافته الغربية وثقافتهم، «الكوريون». بهذا المعنى يقوم بتقديم صورة لكوريا بـ «عين الدارس المتفحص» وليس «السائح المتفرج».

ويرى أنه ينبغي على الزائر لكوريا أو المقيم فيها لفـــترة من الزمن معرفة بعض الكلمات والمبادئ الأساسية التي تسمح له بـ«التواصل» مع الكوريين العاديين. والتنبيه أن تلك المهمّة ليست سهلة، ذلك أنه فهــم خلال تجربته أن اللغة «المبسطة» التي يـــتم التفاهم بها في كوريا تعــــود إلى القرن الخامس عشر وجرى تبنّيها نهائياً في القرن العشرين.

وعلى مستوى الحياة اليومية يحدد المؤلف القول أن «الذهاب أبعد في معرفة المجتمع الكولاري» تتطلب بالضرورة معرفة الحد الأدنى «الذي لا بد منه في مجالي التغذية والكلام». ذلك على اعتبار أهميتهما الكبيرة للاندماج «قليلاً» في أيّة مجموعة بشرية. والإشارة أن «الكلام واستخدام القضبان الخشبية في الأكل يمكن الإلمام بهما من خلال التعلّم».

ما يؤكده المؤلف بأشكال مختلفة هو أن مدينة «سيؤول» ولّدت لديه في البداية الكثير من مشاعر «الرفض والنفور». ذلك أنها بدت له «بدون أية هوية». لكن تلك المشاعر الأولى لم تستمر طويلاً. ولا يتردد المؤلف من التنبيه، بل والتحذير، من الانجراف وراء مثل تلك المشاعر. ذلك أن «ملامح وجه مدينة سيؤول لا تسفر عن نفسها بسهولة للناظر إليها»، كما يكتب.

ومن النصائح التي يقدّمها المؤلف للقارئ الذي يريد التعرّف إلى الوجه الحقيقي لمدينة سيؤول في مقدمتها «معرفة كيف يكون المرء صبوراً، وألا يقصر اهتمامه على الأحياء الجديدة وخوض مغامرة رؤية وجه القسم الآخر من المدينة الذي لا يزال يحمل تقاسيم وجه كوريا القديمة». وفي هذا القسم القديم لا يزال يتواجد حتى الآن أولئك الذين يمارسون حتى اليوم مهنة «الحدادة»، حسب توصيف المؤلف.

عبر اختيار عنوان «دائماً إلى الشرق أكثر» يريد مؤلف هذا الكتاب الإشارة إلى رغبة «الذهاب أبعد» في فهم كوريا التي يجهل العالم الخارجي الكثير عنها وبحيث أنها ارتبطت في رأسه بمجموعة من السلع والمنتجات التكنولوجية المتقدمة التي تحمل عبارة «من صنع كوريا».

وللتعرف إلى كوريا «الحقيقية» يحدد المؤلف القول إن تجربته التي عاشها شهوراً طويلة في مدينة سيؤول وغيرها من بلدات وقرى وأرياف كوريا جعلته يفهم أهمية اللقاء مع «الناس البسطاء»، هؤلاء «البسطاء» هم الذين يعرفون كيف يستقبلون الآخرين بكثير من «المشاعر الحارّة». لكن ذلك شريطة ألا تختلط صورة هؤلاء الغرباء مع «الأميركيين» الذين يعيدون إلى ذاكرتهم ما فعلته الحرب الكورية الأخيرة، في مطلع خمسينات القرن الماضي في بلادهم.

Email