عزز تقارب الحضارات والثقافات عبر العصور

البحر الأبيض المتوسط.. بحر لغاتنا

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

قيل وكُتب الكثير عن البحر الأبيض المتوسط، وعن دوره كونه مجالاً بحرياً للتواصل الحضاري بين بلدان جنوبه وشماله وشرقه.

وما يتفق حوله الجميع هو أن هذا البحر لعب دوراً مركزياً في حضارات القارات الثلاث المجاورة له، أي أوروبا وأفريقيا وآسيا، لكن لويس ــ جان كالفي، عالم اللغات وصاحب العديد من الكتب حول عالمها و«حياتها وموتها»، يكرس كتابه الأخير لهذا البحر الأبيض المتوسط من حيث إنه مجال متميز للتواصل اللغوي والثقافي. يحمل الكتاب عنوان: «البحر الأبيض المتوسط، بحر لغاتنا»، وهو يقصد بذلك لغات شعوب حوض المتوسط.

ويدرس كالفي البحر الأبيض المتوسط في هذا العمل من زاويتين أساسيتين، الأولى بعيداً عن الكثير من الأفكار الشائعة، التي لا ترى فيه سوى «مجال لاستعراض القوة»، «ساحة للمعارك» بين الشعوب التي تعيش على ضفافه، والثانية هو أنه يدرس اللغات من حيث بعدها الجيوسياسي ــ الجيوبوليتيكي والمضمون الحضاري التي اشتملت عليه.

وفي جميع الحالات يستخدم المؤلف تعبير «لغاتنا» في منظور القيام بنوع من «التاريخ اللغوي لحوض البحر الأبيض المتوسط». وهو يعطي للقسم الأول من الكتاب عنوان «تاريخ اللغات».

بهذا المعنى يتحدث عن «الإمبراطوريات اللغوية التي تعاقبت في حوض البحر الأبيض المتوسط والآثار التي تركتها». وبالتوازي يقوم بدراسة المظهر اللغوي وآليات انتقاله، عبر انتشار بعض الممارسات مثل «تقنيات صيد الأسماك» أو «انتشار منظومات الكتابة».

وبعد أن يشير المؤلف إلى أن «لغات اليوم ليست هي تلك التي كان يتم التحدث بها في حوض المتوسط قبل 3000 سنة»، يطرح عدداً من الأسئلة من نوع: كيف تم الانتقال «لغوياً» من الماضي إلى الحاضر؟ وما انقرض من لغات.. وما انتشر.. وما وُلد؟

ويشرح أنه في جميع الحالات كانت هناك «أربع أبجديات للكتابة هي العربية واليونانية واللاتينية والعبرية»، هذا في الوقت الذي لم تكن هناك أية منظومة قبل 6000 عام فـ«كيف تم التطور اللغوي»، يسأل المؤلف.

ومن الميزات الأساسية، التي يؤكد المؤلف عليها بالنسبة لحوض البحر الأبيض المتوسط هو أنه «مجال مغلق وقليل التأثر تاريخياً بالعوامل الخارجية».

ويتم تحديد القول، إنه من وجهة النظر تلك يرى أن «شعوب وثقافات ولغات حوض المتوسط تجابهت في إطار بوتقة مغلقة»، لكن المؤلف يميز في هذا السياق بين «قلب المتوسط» و«مناطقه المحيطية»، معتمداً في ذلك كثيراً على ما كان قد شرحه المؤرخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل في كتابه- المرجع- الذي يحمل عنوان «البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني». وتحديد «القلب» في المناطق الشاطئية والجزر، بينما المحيط يضم «الصحراء من البحر الأسود حتى البلقان وشمال أوروبا».

يبدأ المؤلف دراسته عن لغات حوض المتوسط من تحديد القول إنه رغم الحديث المتكرر عن نوع من «المجموع المتجانس» بالنسبة لحوض البحر الأبيض المتوسط، فإنه لا بد من ملاحظة غياب ما يرمز إلى ذلك، فـ«البحر الأبيض المتوسط ليس دولة ولا أمة وليس له وجود قانوني أو أيديولوجي».

ويضيف: «ليس لحوض المتوسط نشيد ولا علم ولا عملة مشتركة بينما تنتمي شعوبه إلى ثلاث قارات. وهي شعوب تتفاعل في ما بينها وتحتك كل منها بالأخرى وتتبادل في ما بينها نظرات التعالي أو الإعجاب، لكنها غالباً تتناحر في ما بينها أكثر مما تتمازج».

السمات المشتركة إلى هذه الدرجة أو تلك لا تعطي في واقع الأمر، كما يشير المؤلف، لصفة «متوسطي» أكثر من نوع من «الميل الثقافي» الذي يجد ترجمته بـ«مجموعة من أشكال التشابه التي تتباعد وتتقارب تبعا للظروف الزمنية»، لكن في جميع الأحوال، وإن لم يكن هناك «جواز سفر» متوسطي فإنه هناك «روائح وألوان وأذواق» متوسطية.

والتأكيد في هذا السياق أن للغات ذاكرتها وأنها تتذكر اللغات السابقة عبر وجود بعض الكلمات التي ورثتها منها. هكذا توجد اللغة اليونانية في مختلف لغات العالم التي تستخدم غالباً تعبير الديمقراطية اقتباساً أو ترجمة. وهناك الكثير من اللغات اليونانية واللاتينية والعربية في لغات حوض البحر الأبيض المتوسط.

ويشير المؤلف إلى أن الغالبية العظمى من شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط تجد أصولها لدى ثلاثة مشارب أساسية. وهو يحددها بالهنود الأوروبيين، الذين قدموا من الشمال والأتراك من الشرق والعرب من الجنوب. ويعبر عن هذه المشارب الثلاثة أيضاً بـعوالم بيزنطية ولاتينية وإسلامية أو بثلاثة أصوات لاتينية ويونانية وعربية.

لكن سبل التواصل الأساسية يجدها المؤلف قبل أي شيء في اللغات التي تشكل نوعا من «الذاكرة المشتركة» كما أنها أحد أبرز المؤشرات على واقع التواصل والتبادل والغزوات والتداخل. وهو يبحث عن تلك السمات في مختلف الأبجديات ودلالات الكلمات والكتابات وغير ذلك من الأشياء ذات العلاقة باللغة. ويصل من خلال بحثه إلى نتيجة أساسية مفادها أن مؤشرات «التفاعل اللغوي» عديدة.

وليس مجرد مؤشرات على المستوى اللغوي والقواعد اللغوية، ولكن أيضاً آثار التفاعل والتمازج تبدو من خلال وسائل التعبير في الحياة اليومية حيث توجد آثار اللغة اليونانية في مرسيليا والعربية في برشلونة والفرنسية في الإسكندرية والإيطالية في تونس والتركية في كل مكان من حوض البحر المتوسط تقريباً.

واللغات التي عرفها حوض البحر الأبيض المتوسط، من يونانية وعربية ولاتينية وفينيقية وآرامية وعبرية وتركية وغيرها، أسهمت في صياغة تاريخ حوض هذا البحر منذ القديم حتى اليوم.

ومن خلال دراسة تلك اللغات يقدم المؤلف العديد من المؤشرات على التبدلات الجوهرية التي عرفتها المجتمعات المعنية. وكما يعبر المؤلف منذ «أسفار أوليس» والإلياذة والأوديسة حتى اليوم، وعبر ذلك يتم الحديث عن العديد من الأحداث التاريخية الكبرى على مدى تاريخ يتجاوز الثلاثة آلاف سنة.

Email