الحروب تُصنع ولا تولد..ويجب أن نراهن على الحلم لوقفها

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يضم ديوان «صلاة لبداية الصقيع»، للشاعر اللبناني عباس بيضون، خمساً وثلاثين قصيدة منها: أرني قلباً، الصمت، الغراب، أنا، شطرنج، البرد. وكان الشاعر بيضون قد شكَّل في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، مع الشعراء: شوقي بزيع، محمد علي شمس الدين، محمد العبد الله، جودت فخر الدين، حسن العبد الله..وآخرين.. ظاهرة «شعر الجنوب اللبناني المقاوم».

ففي شعره، وليس في ديوانه هذا، أو في قصيدة النثر التي يكتبها هو ينطلق من موقف نقدي ساخر وكأنَّه يسأل: أهكذا وببساطة تحوَّلنا إلى فرائس؟

 وهذا ما يثير ملكةَ الشعر عنده فيما لو كان المفترس نسراً أو سبعاً. فكيف إذا كان ضبعاً؟ إنَّها الغرائز حين تستردُّ قوَّتها فتعمل الذي تعمله مهما كان ما تعمله عظيماً أو وضيعاً أو مثيراً للاشمئزاز. فهو في هذا الديوان «صلاة لبداية الصقيع» يجمع الغرائز كلَّها في غريزة واحدة- الحياة، مهما كانت درجة برودة الصقيع.

فنراه رغم تشاؤمه ليس يائساً وإن ذهب إلى أقصى الاسوداد. فالقاضي كما المجرم والملك كما الحاجب، يتزاحمون على الحياة.. يتزاحمون على النفايات والفضلات ويتدافعون ويتضاربون لحظة الفرار من الموت إلى الحياة، وهم مهما علو/ اعتلوا لا يقطعون حقل – مكبَّ الأقذار، حتى أكثرهم مخاتلة وخداعاً:

«أسماؤهنَّ جمعتها النمال بعد أن سقطت كحبات القمح في الثقوب. عقولهنَّ نهشتها الطيور.. عيونهنَّ شاخصاتٌ إلى الغيب، والفراغ المعقّم الذي ملأهنَّ يفوح باليود. جلودهنَّ يابسة لمجاراة السماء. لم تكن الأبدية بعيدة من هنا».

يبين الشاعر أن الحروب تُصنع- لا تُولد، والشاعر رغم ذلك يراهن على الحُلم في إيقاف هذه الصناعة. فضربات الحُلم قد تكون قاسية على الواقع، والشعر يلعب أو هو يشتغل على الحُلم باعتباره ملاذاً أخيراً: «حجرٌ يغوصُ في الذاكرة، يخرجُ وجهٌ من تحتِ الماء، بالكادِ لهُ ملامح. السنونُ برَّدت قسماتِهِ ثمةَ نسيانٌ كثيفٌ يتجمَّعُ عليها. لم أعرفْهُ. لقد عادَ الحجرُ إلى العمق.

إن عادَ ذلكَ الوجهُ فلن يكونَ وجهُ هاملت ولا يوسف النبي. لقد صنعتُ وجوهاً من الرماد والآن أصفُّها في الشمس». الشاعر عموماً عليه أن يكون نبياً ومفكِّراً وسياسياً عليه أن يُبدع المستقبل والشعر في المستقبل، أو يعود القهقرى إلى القيم البدائية.. إلى الأساطير والخرافات، إلى النكوص والعُصاب ويموت:

«هكذا تمرُّ الحياة، ولا أحد يلتقطها. تمرُّ وتخرج ولا تلتفت إلى أحد. الأقارب المحيطون بالسرير لا يتحمَّلون أن يكونوا بهذا القرب من الأبدية».. «يتركنا الهواء ثمَّ يعود إلينا ومن جديد يعود الصمت إلى الدوران، وفي اللحظة التي لا نجد فيها كلمةً لنا يلوحُ الخيط المدفون فينا كفكرة وربَّما كاسم وربَّما كنصل».

لا يذهب الشاعر عباس بيضون إلى التجريدات الغامضة. فهو يضعنا أمام الوقائع، فلا حاجة للمجاهر. المأساة ساخطة، مأساة الشاعر غاضبة وعقلانية.

وهو يُعلن (المعنى) في كل القضايا التي يُثيرها إن في ديوانه هذا أو سائر أشعاره وحتى رواياته: «فجأة ينعب غرابٌ فتتراجع الموجة، ولا ندري من أيِّ زمنٍ يصعد النعيب المتفاوت كثيراً مع حجم السنونوة الكبيرة التي تطلقه». أو في قوله: «ستكون النمال أوَّل من يأتي. ستحمل لي ذبابة أغنيةً من هناك. ستجدني نحلة على آخر نفس... ستمتلئ الغرفة بهذه الكائنات».

Email