تعمر به موائد الأدب والإبداع في الغرب ويعاني شحاً في بلداننا

«أدب الاعتراف».. قيود اجتماعية تحاصره عربياً

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

وجبة أدبية بنكهة ذاتية صرفة قوامها «المكاشفة» و«المصارحة» يسوقها المبدع حول أدق التفاصيل في حياته، والتي غالبا ما تبدو «سلبية». ذاك هو التوصيف الشائق لصنف «أدب الاعتراف»، والذي يمثل لوناً من «السير الذاتية». إذ تعمر به موائد الأدب والإبداع في الغرب.

بينما نعاني نحن، الشح في مواده وموضوعاته، ما يحرمنا من مساق إبداعي يميزه كنوع واقع كون صاحبه يقدم إلى جمهوره وقرائه، جملة حكايا وقصص عنه وعن حياته وأسراره، وهي مما لا يجرؤ أن يتحدث فيها مع غيره. ذاك اضافة إلى عرضه المواقف أو المراحل المختلفة التي مر بها، ومواطن الضعف الإنساني والخلل الناتج عن ذلك.

ملامح الجرأة

ولم يعرف الأدب العربي ذلك النمط الأدبي بصورة قوية؛ نظراً لظروف المجتمع نفسه، إلا أن هذا الصنف الابداعي منتشر بقوة في الثقافة الغربية، بصورة تطغى معها ملامح الجرأة في الحديث حول الذات بشكل أكثر مكاشفة، وهو ما يزود القارئ بجرعة أدبية فريدة ومتمايزة، تختلف تماماً عن فن السير الذاتية التي غالبا ما تعتمد على رصد حياة كاملة، ومع هذا لا يكون المبدع مطالباً فيها بالكشف عن جوانب حياته الصادمة، على العكس من «أدب الاعتراف»، والذي يبدو، طبقاً لأدباء كثر، قابعاً في خانة الاعتقال بانتظار قاطرة الانقاذ والعفو المجتمعي.

«بيان الكتب»، يناقش هذه المسألة الإشكالية الأدبية، راصداً مجموعة آراء لمثقفين وكتاب، حول أسباب خفوتها او حضورها الخجول عربياً، وماهية التأثيرات التي يخلفها الأمر.

اختلاف وسلبيات

تُعرِّف القاصة والروائية سلوى بكر، «أدب الاعتراف»، على أنه لونٌ أدبيٌ يُقدمُ الصورةَ الحقيقيةَ للكاتبِ أو جانباً منها، بسلبياتها وإيجابياتها، ولا بد أن تكون القضية متعلقة بالكاتب أو السارد، وتكشف عن ضعف ما في شخصيته، أكثر من الجوانب الإيجابية أو النجاحات، وهذا ما يجعل «أدب الاعتراف» مختلفًا عن أدب السيرة الذاتية.

وتشير سلوى إلى أن هذا النمط الأدبي لم يكن منتشراً بقدر كبير لدى الكتاب العرب، خاصة أن فكرة المكاشفة والمصارحة بالأخطاء، تعد مرفوضة قيمياً وأخلاقياً في مجتمعاتنا العربية، حسب ما توضح. لكن، ومع هذا، يلقى ذلك النوع رواجاً كبيراً لدى الغرب، وهناك كتاب كبار عُرفوا واشتهروا في هذا المجال.

وتضيف: «إن هذا النوع من الأدب يكشف جوانب وبواطن المجتمع، وليس الكاتب نفسه فقط، فيمكن أن يشتمل على حيلة أدبية لمواجهة المجتمع بسلبياته أو خفاياه، كما أنه بمقدور القارئ أن يستنبط وحده، حقيقة ما يعنيه الكاتب، من دون الحاجة إلى الاعتراف بأن ما كتبه يأتي تحت خانة وتصنيف «أدب الاعتراف» من عدمه، وذاك حتى لو غلفها الكاتب ببعض «الخيال» أو الوقائع غير الحقيقية».

جانب إنساني

وترى الروائية عفاف السيد، أن «أدب الاعتراف» هو بمثابة سرد لحياة الكاتب، ولكن بشكل يختلف عن ماهية أدب السيرة الذاتية، إذ إن الكاتب يعمد إلى نسج جزء من حياته مع الخيال الإبداعي في الغالب، ويلجأ بموازاتها إلى التفاصيل والدقائق، سعياً منه إلى تعميق الجانب الإنساني في مادته الإبداعية، وهذا طبعا، حسب عفاف، بلا أن يهمل ضرورة إلقاء الضوء على كثير من الجوانب السلبية في شخصيته، وهو ما يتطلب جرأة وقوة في الطرح، ومواجهة المجتمع، خاصة في مجتمعاتنا العربية.

وتضيف: إن سبب تميز هذا النوع من الأدب رغم قلة أعماله، هو أنه يحوي جانبا من حياة الكاتب بشكل أو بآخر، فكما ذكر نجيب محفوظ في مذكراته، انه كتب سيرته الذاتية في كل أعماله الأدبية على سبيل المثال، والقارئ يستنبط الحقيقة خلالها، ما يعني أن الاعتراف يحتمل أن يكون جزءاً من أعمال أدبية للروائي، لا تندرج تحت مسمى «أدب الاعتراف».

كما تشير عفاف إلى أن ذلك الأسلوب والنوع الأدبي، مصيره أن يجعل القارئ قريباً جداً من الكاتب، ويطلع عن كثب، على خوالجه ومشاعره، وبهذا يكون أكثر معرفة به وبمشكلاته، وهو ما يتمناه كل قارئ، إذ يصبو القراء دوما إلى أن يكونوا ملمين بعالم الكاتب وليس العمل الأدبي الخاص به فحسب.

خارج المألوف

تعتقد الروائية، الدكتورة رشا سمير، أن «أدب الاعتراف» هو نوع خارج إطار المألوف في سياق الأدب العربي، خاصة أن مبدأ المكاشفة يخلق تخوفا لدى الكاتب والجمهور معاً، ويتطلب شجاعة كبيرة من الكاتب، وبالتالي فقلما يحدث هذا لدينا.

كما تلفت رشا إلى أن هذا النوع الأدبي منتشر في الغرب بصورة كبيرة، حيث إنه مرتبط بالطبيعة الغربية التي لا تخجل من الأخطاء، بل على العكس، تتعامل معها بكل صراحة ووضوح.

تصيد الأخطاء

وتكشف رشا عن جانب ان ثقافة تصيد الأخطاء في مجتمعانا تحول دون رواج هذا الصنف الابداعي الذي يعري الواقع ويسمي السلبيات. وتؤكد أن ذاك ما يجعل الكاتب يبتعد عن هذا النوع، بفعل نبذ المجتمع له لو فعل وخاض غماره، فهي ستكون خطوة جريئة من قبل الكاتب وصادمة للجمهور. وتبين أنه ومع هذا فهو نوع أدبي مهم؛ لأنه يحدد سلبيات المجتمع ويبحث فيها، سواء بشكل مباشر أو مستتر.

وتتابع «أعتقد أن هذا يُعد ضمن فوائد الأدب بشكل عام.. ومن جانبي ككاتبة تهتم بجوانب وقضايا المرأة، فأجد أننا نعيش في ظل مجتمع ذكوري؛ ما ينعكس على الأشكال الأدبية التي تكتبها المرأة، وهذا يفسر الهجوم الشرس الذي تعرضت له كل من كتبت أدباً مشابهاً لأدب الاعتراف، مثل : لطيفة الزيات ونوال السعداوي وديزي الأمير».

شجاعة

وتدلل رشا في هذا الصدد، على شدة اقتناعها بقيمة هذا النوع من الأدب، ووجوب حضوره في الساحة الثقافية العربية، مستشهدة ببعض قراءاتها، ومشيرة خاصة، إلى كتاب مهم في هذا الشأن.

إذ تقول «أتذكر أنني قرأت رواية للكاتبة المغربية، مليكة أوفقير بعنوان «الغريبة»، تحكي فيها جانبا من حياتها وهي في كنف رعاية العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، وتشرح ضمنها كيف انقلب عليه والدها، الذي كان وزير داخليته آنذاك.

كما رصدت تجربة سجنها الذي قارب العشرين عاما، وخلال هذا السرد، لمحت الشجاعة التي تحلَّت بها هذه السيدة، وسط ما تتعرض له من مشكلات؛ لكنها كانت قوية للتصدي لأي هجوم، وأعتبر أن ذلك كان لوناً فنياً قريباً من أدب الاعتراف».

 

تجارب مهمة اصطدمت بحاجز الاعتبارات المجتمعية

يدرج نقاد كثيرون، مجموعة من الأعمال العربية في خانة «أدب الاعتراف»، مثل؛ «أوراق العمر» للويس عوض.

كذلك بعض أعمال لطيفة الزيات ونوال السعداوي وفاطمة المرنيسي. وكان لكل من هؤلاء طبيعته في الكتابة والتعبير عن نفسه وعن المجتمع، ومع هذا لاقى جميعهم المصير نفسه إزاء ما قدموه، وهو الرفض من قبل المجتمع، ومن ثم انهالت عليهم الاتهامات والانتقادات.

كما واجهت الكاتبة السورية غادة السمان، المصير ذاته، حين نشرت أشعاراً وكتابات للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، كتبها لها في سبعينيات القرن الماضي؛ للتعبير عن حبه لها، خلال الفترة التي جمعتهما سويا، إذ اعتبرها البعض فضيحة أكثر منه كونها أدب اعتراف أو تصريحاً بالحب، وكذا عدها نقاد لوناً من ألوان أدب الاعتراف.

كما كشفت الكاتبة السورية كوليت خوري، خفايا علاقتها بالشاعر نزار قباني في كتابها «أيام معه»، ولم تسلم من الانتقاد أيضًا.

وأيضا، هناك الكاتب المغربي محمد شكري، وما لاقاه عقب نشر روايته «الخبز الحافي»، والتي واجهت هجوماً شرساً وقت نشرها في العام 1982، وتطور الأمر ليصل إلى حد منعها من عدة دول عربية، لتناولها جانباً خفياً من حياته، يرصد به حياته البائسة وعلاقته مع أبيه، إلى جانب علاقاته النسائية العديدة.

وهذه الرواية التي كانت السبب في شهرة شكري، منعت في العالم العربي لسنوات طويلة، فرغم أنها مكتوبة في العام 1972، إلا أنها لم تقدم للقارئ العربي، في نسخة عربية، إلا في العام 1982، لكن، ومع هذا ترجمت إلى 38 لغة.

Email