(كما أن الفاكهة ثمرة الأرض، فالفكاهة ثمرة العقل، وقد اتخذت كل أمة من الأمم، في كل عصر من العصور، شخصاً من الأشخاص (الجحويّة) الباسمة رمزاً لفكاهتها، تسند إليه كل طريف من نكاتها، لذلك كثرت الشخوص (الجحويّة) وتعددت ماهيتها وأشكالها).

بهذه العبارات، مهّد كتاب عتيق مُغفل من اسم مؤلف أو مُعد، حمل عنوان (نوادر جحا وحماره وابنه) للحديث عن شخصيّة فكاهيّة، نردد طرائفها، ونبتسم لنكاتها، ونعجب لمواقفها التي تحمل ثنائيّة عجيبة؛ فهي بقدر ما فيها من الذكاء، فيها من الحمق.. شخصية تعيش معنا من دون أن يعلم غالبيتنا شيئاً عن أصلها وفصلها، وهل هي حقيقة أم أسطورة.

شخصية جحا

عاشت شخصية جحا عصرها بطريقة مختلفة، وكانت تتماشى مع الأحداث الواقعيّة - الخياليّة، وتتصرف بذكاء كوميدي ساخر، الأمر الذي ساهم بانتشار كل ما يصدر عنها من نوادر وقصص ومواقف بين الناس، عن طريق الناس أنفسهم.

أما الصفات الخلقيّة لجحا فقد تعددت واختلفت من شعب لآخر؛ فقد وصفه العرب بقولهم: كان أصلع، مستطيل الوجه، أجرب، ذا عمامة كبيرة جداً، ويرتدي القفطان، وبأنه منذ صباه كان مرحاً ذكياً، سريع البديهة، ميالاً إلى السخرية والنقد، نجده أحياناً قاضياً، وأحياناً أخرى مُتهماً، كما قدمته بعض نوادره متزوجاً من امرأة هو على خلاف دائم معها، وقدمته طرائف أخرى متعدد الزوجات.

في كل زمان ومكان

يحضر جحا وشلته ونوادره في الأدب الشفاهي، وفي الكتب والمقالات ووسائل الإعلام المختلفة. قدمها الرسامون والنحاتون في العديد من أعمالهم الفنيّة التي أضحكوا بها الكبار والصغار، كما ضمنها القاصون والكتّاب إبداعاتهم، وفصّلوا منها أنماطاً فكريّة وظّفوها لأكثر من مهمة وهدف، ما جعلها تتلون بألوان العصور والأزمنة التي تظهر فيها، وتتأثر بعادات وتقاليد الشعوب والأمم التي تسودها.

بمعنى أنها تأخذ ماهيّة المكان والزمان في آنٍ معاً، تماماً كما يتلون الماء بلون الإناء الذي يستوعبه. وهكذا بات الرمز «الجحوي» أشبه بالرمز الجبري، يختلف مدلوله في كل مناسبة عن التي سبقتها، بحيث بات لازماً وضرورياً للناس، لأن العالم لو خلا من مثل هذه المفارقات الطريفة الباسمة لأصبح جحيماً لا يُطاق.

بين الغفلة والبَلَه

لم يقتصر الاهتمام بجحا وشلته على الفنانين والأدباء، بل تجاوزهم إلى القادة والمصلحين الاجتماعيين الذين استخدموا الرمز «الجحوي» في كسب قضاياهم. مع ذلك لم تسلم الشخوص «الجحويّة» من اتهامها بالغفلة حيناً، والبله حيناً آخر، وبأنها تسمع غير ما قيل، وتكتب غير ما سُمع، وتقرأ غير ما كُتب، وتفهم غير ما قُرئ.. أو كما قال فيها أحدهم: تقول لها زيداً فتكتب خالداً، وتقرأه عمراً، وتفهمه بكراً.

جحا العربي

يُنسب جحا العربي إلى أبي الغصن دُجين بن ثابت الفزاري. عاصر الدولة الأمويّة، وقد أُعجب الناس بما سمعوا من طرائف ونوادر منسوبة إليه، ولشدة إعجابهم بها أصبحوا ينسبون إليه كل دعابة ظريفة، وطرفة مليحة، ما جعل نوادره تتداخل بنوادر غيره، وبالتالي تعذّر التمييز بين الأصل والتقليد.

جحا الشعوب الأخرى

أخذ (جحا) مسميات مختلفة عند باقي الشعوب والأمم التي خلقت لنفسها جحاها، وفق طبيعتها، وظروف حياتها، الأمر الذي جعل ملامح وخصائص هذه الشخصيّة تختلف من شعب لآخر، لكنها في الجوهر تبقى واحدة: ذكيّة وبارعة، وحمقاء.

جحا في تركيا هو نصر الدين خوجة الرومي، وفي إيران ملا نصر الدين، وفي بلغاريا غابرومو أو هيتريتر، وفي أرمينيا أرتين صاحب اللسان السليط، وفي يوغسلافيا آرو المغفل، وفي إيطاليا جوخا، وفي اليمن أحمد المطري، وفي ألمانيا كلوس نار، وفي فرنسا جان لوديو، وفي شمالي أفريقيا رحا، وفي روسيا لاكيرف، وفي رومانيا باكالا، وفي إنكلترا سوجان، وفي الصين الأفندي، وهذا اللقب ارتبط بجحا التركي (نصر الدين خوجة) ما يُرشح انتقاله إلى الصين عبر تركيا. أما في ألبانيا فيُلفظ باسمه العربي، وفي اليونان أناسترين - أودجا، وفي اسكتلندا أندروز.

عوالم جحا

ارتبط اسم جحا بالعديد من الشخصيات منها: جحا والملك، جحا والسلطان، جحا واللص، جحا والقاضي الظالم، جحا والتجار الثلاثة، جحا وصاحب المواهب، جحا والتاجر الغشّاش. كما شكّل حماره وابنه وزوجته قواسم مشتركة في غالبية نوادره منها: حكايات جحا والحمار، جحا وزوجته، جحا وحماره، جحا وابنه وحماره.

مسمار جحا

تتردد على مسامعنا كثيراً عبارة (مسمار جحا) التي تُوظّف في مجالات عديدة. فما حكاية هذا المسمار؟ تقول الحكاية: إنه كان لجحا منزل يعتز به، وقد نزل به الفقر والاحتياج حتى اضطر إلى عرضه للبيع، فجاء جاره وقال له: أنا مستعد لشراء المنزل، فقال له جحا: أنا أبيعك البيت بشرط أن به مسماراً لا أبيعه أبداً، فقبل جاره أن يشتري البيت ويترك له المسمار، فوقع العقد، وكُتب فيه بأن المسمار لجحا، وله حق الاطلاع عليه في أي وقت كان.

ثم إن حجا قبض ثمن البيت، وصار كل لحظة يحضر إلى البيت ومعه حيوان ميت، فيدخل ويربطه في المسمار من الصباح إلى المساء، ثم ينصرف ويحضر في منتصف الليل فيدق الباب دقاً عنيفاً، فيخرج صاحب المنزل لمقابلته ويسأله ماذا تُريد يا جحا؟ فيقول: أريد أن أرى المسمار، فيدخل ويجلس في الغرفة حتى الصباح، وما زال كذلك حتى دفع المشتري لإخلاء المنزل، تاركاً عوضه على الله. وهكذا ذهب مسمار جحا مثالاً للخبث والدهاء والتدخل في شؤون الآخرين.

من نوادره

•قال له ابنه يوماً: يا والدي، أنا أتذكر يوم ولادتك! فشتمته أمه وأسكتته، فنظر إليها جحا وقال: لماذا تشتمينه، فربما يتذكر ذلك منذ صغره.

•جاء ضيف ونام عنده، فلما كان منتصف الليل أفاق الضيف ونادى جحا قائلاً: ناولني يا سيدي الشمعة الموضوعة على يمينك، فاستغرب جحا طلبه وقال له: أنت مجنون؟ كيف أعرف جانبي الأيمن في هذا الظلام الدامس؟!

•دعاه صديق له إلى داره، فأكرمه بعسل وقشطة، وبعد أن أتم الأكل، أخذ يلعق العسل بأصابعه لعقاً متوالياً، فقال له صاحب الدار: إن أكل العسل بلا خبز يحرق القلب، فأخذ جحا يزيد في اللعق بسرعة عظيمة قائلاً: الله يعلم قلب مَن يحترق!

•سألوا جحا يوماً: كم عمرك؟ فقال: أربعون سنة. وبعد مضي عشر سنوات، أعادوا عليه السؤال نفسه فقال: أربعون سنة، فقالوا له: منذ عشر سنوات سألناك فقلت: أربعون، والآن تقول كذلك؟! فأجابهم: الرجل الحر لا يرجع عن كلامه، فالله واحد، والقول واحد، ولو سألتموني بعد عشرين سنة فهذا جوابي!

•خرج جحا لإلقاء الدرس في الجامع ومعه مريدوه وتلاميذه، فركب حماره بالمقلوب، فتعجبوا منه وقال له أحدهم: لماذا تركب كما نرى يا سيدي؟ فأجابه قائلاً: وما أصنع؟ إني إذا ركبت مستقيماً تبقون خلف ظهري، وإذا سرتم أمامي أبقى خلفكم، من أجل هذا ركوبي بالمقلوب هو الأصح!

•خرج جحا في منتصف الليل يدور في الشوارع، فصادفه رئيس الحراس وسأله: عن أي شيء تفتش في الشوارع بنصف الليل؟ فأجابه جحا: هرب نومي مني وأنا أفتش عنه!