نبوءة الاختراعات العلمية روائياً

«20 ألف فرسخ تحت البحر»

ت + ت - الحجم الطبيعي

ألَّف الروائي الفرنسي جول فيرن (1828 ـ 1905) أكثر من مئة رواية وكتاب، وسبق في تفكيره عصره، وتنبأ في رواياته باختراعات لم تكن موجودة في زمانه.

ومنها الكهرباء والغواصة والصاروخ. وبعض عناوين رواياته العديدة يوضح ذلك بجلاء، ومنها رواية «خمسة أسابيع في منطاد» 1862، «رحلة إلى قلب الأرض» 1864، «من الأرض إلى القمر» 1865، «عشرون ألف فرسخ تحت البحر» 1869. ولهذا اعتُبر جول فيرن رائد أدب الخيال العلمي الأول، ومن هنا يمكننا فهم لماذا كان من أكثر الكتّاب الذين تُرجمت أعماله إلى اللغات العالمية.

أما روايته الشهيرة «حول العالم في ثمانين يوماً» فقد وظف فيها معلومة وجود تأريخين ليومين متتاليين على الأرض، وهي الرواية التي درّست في مناهج اللغة الإنجليزية في مراحل مختلفة من الدراسة في عالمنا العربي لما فيها من متعة وفائدة.

الغواصة «نوتيلوس»

وقد تمكن جول فيرن بمهارة من إقناع قرّائه بما تحدّث عنه في رواياته من احتمالات ظهور اختراعات تطرق إليها بتفاصيل دقيقة ووصف متكامل، مع مغامرات مشوقة وعلمية في رواياته العديدة، وكان من أبرزها وأجلاها اختراع الغواصة في روايته «عشرون ألف فرسخ تحت البحر» موضوع بحثنا هنا. ويكفي أن نشير إلى أن اسم الغواصة التي تحدّث عنها في هذه الرواية.

والتي سمّاها «نوتيلوس» قد تحقق بعد عدة عقود من نشر الرواية، حين أطلقت الولايات المتحدة على أول غواصة صنعتها اسم «يو أس أس نوتيلوس» تكريماً لجول فيرن الذي مهد لهذا الاختراع الباهر. واختراع الغواصة يعني اكتشاف أعماق البحار والمحيطات بما فيهما من أسرار ظلَّت مجهولة لقرون.

أحداث الرواية تبدأ سنة 1866 عندما ظهر في البحر وحش ضخم غامض أسود طوله مئات الأقدام وشوهد من قِبل عدّة سفن، حجمه أكبر من جميع المخلوقات التي يعرفها العلماء. كان الوحش يُصدر وهجاً مخيفاً من تحت الماء الذي يقذفه مئات الأمتار بعيداً.

شاهده الناس قريباً من سواحل أستراليا، وبعد ثلاثة أيام شاهدوه على بعد أكثر من ألفي ميل في المحيط الهادي. كان سريع الحركة حتى إن الناس شاهدوه بعد أسبوعين في منتصف المحيط الأطلسي على بعد أكثر من ستة آلاف ميل.

مواجهة الوحش

شاعت الأقاويل حول هذا المخلوق الغريب والعجيب الذي أثار الكثير من الدهشة والخوف؛ فتحدّثت عنه الصحف، وحارَ به العُلماء إن كان مثل هذا المخلوق الضخم موجوداً حقاً.

وكان يُعتقد أن الوحش صدم عدة سفن، فأغرق بعضها وثقب وعطّل بعضها الآخر، ومنها سفينة «سكوتيا». دفع ذلك عالِم البحار بيير أروناكس إلى أن يرجح وجود الحوت المرقط الضخم للغاية، مسبباً كل تلك الأحداث.

كما قامت الولايات المتحدة بتجهيز السفينة الحربية المسماة أبراهام لينكولن بقيادة الكابتن فاراجات لملاحقة الوحش وقتله، والتي التحق بها أروناكس بعدما اصطحب معه خادمه الأمين كونسيل، وهي السفينة التي ودّعها الناس من نيويورك بصخب واحتفال مهيب. وطاقم السفينة الذي كان يتسم بالولاء والحماس كان يضم نيد لاند أمهر صيادي الرماح الكنديين. وسرعان ما ارتبط العالِم أروناكس بعلاقة طيبة مع الصياد نيد لاند.

كان مسح المحيط الأطلسي يتم ليلاً ونهاراً بحثاً عن ذلك الوحش الغامض، وسرعان ما مضت ثلاثة أشهر وهم في البحر، تسلل خلالها الضجر واليأس للبحارة، لذلك طلب منهم الكابتن فاراجات أن يواصلوا البحث ثلاثة أيام فقط، فإن لم يعثروا على الوحش خلالها يعودون إلى الوطن.

وفجأة صاح نيد لاند وهو يشير إلى جسم بيضاوي متوهج: «ها هو هناك». وصرخ أروناكس: «انظروا هناك.. إنه يتحرك».

أطلقوا قذائف مدافعهم باتجاهه، ونيد أطلق رمحه أيضاً، قبل أن يحدث اصطدام رهيب، سقط على أثره أروناكس وخادمه كونسيل ومعهما نيد لاند في المياه ليجدوا أنفسهم بعد صراع مع الموت على ظهر جسم معدني أملس مكوّن من صفائح معدنية مربوطة إلى بعضها بإحكام على شكل سمكة.

طرقوا الصفائح مستنجدين، ومن باب معدني خرج رجلان يرتديان قبعتين من جلد القندس وملابس فضفاضة، ثم جاء ثمانية رجال دفعوهم بالقوة إلى قلب ذلك الجسم المعدني.

اكتشاف السر

سرعان ما أدرك أروناكس وخادمه كونسيل ومعهما نيد لاند أنهم أسرى وهم يشاهدون معاملتهم بقسوة، وحجزهم في مكان مظلم. قبطان الغواصة نيمو جاء وحاورهم، ليعرفوا من خلاله أنه يعرفهم جيداً وخاطبهم بأسمائهم، حينها أدركوا أنهم لن يُطلق سراحهم؛ لأنهم اكتشفوا سر الغواصة.

ولكنهم سيكونون أحراراً في التجول داخل الغواصة، وطلب القبطان نيمو من أروناكس أن يستفيد من هذه التجربة بزيادة معرفته بعالم البحار بعد أن أخبره أنه قرأ أبحاثه القيمة، وأنه بوجوده في الغواصة سيكتشف ما لم يشاهده إنسان من أسرار البحار.

أروناكس أخبر القبطان نيمو أن فضوله لمعرفة جديد أسرار البحار يفوق رغبته في الحرية، غير أن نيد لاند كان يتطلع إلى الهروب والحرية ويحث أروناكس على ذلك، خصوصاً وأن أروناكس وجد أن الغواصة تحوي مكتبة متنوعة وفيها كتابه ألغاز أعماق المحيطات، وآلات موسيقية،.

ولوحات نادرة وتماثيل رائعة يبدو أن بعضها التقط من سفن غارقة، خصوصاً تلك الجواهر والأصداف والأحجار الكريمة واللآلئ والشعاب المرجانية الملونة التي لا تقدر بثمن، ومثلت متحفاً نادراً، هذا فضلاً عن أن أروناكس شاهد أسرار صناعة هذه الغواصة وهي تجدد الهواء بالطفو فوق السطح وتستخدم الكهرباء وتحلية المياه، وشاهد غرفة قيادة الغواصة الزجاجية.

حيث يمكن رؤية الكائنات البحرية البديعة وهي تسبح في محيط ضوء الغواصة، كما اصطحبه القبطان نيمو ليشاهد إحدى غابات البحر وتجول بها بعد أن ارتدى بدلة الغوص، وشاهد براكين تحت الماء، وجبالاً من الثلج، وأنفاقاً مائية واسعة، واحد منها انتقلوا من خلاله من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، تحت «قناة السويس».

كما هاجمت مجموعة من الحبّار المتوحش الضخمة الغواصة بما تملكه من أذرع متعددة وقوية حتى كادت أن تغرقها.

وخلال عشرة أشهر من الأسر شاهد أروناكس ما لم يشاهده إنسان من قبل، وأدرك أن الكابتن نيمو الذي يلتقط من مقابر حطام السفن الغارقة كنوزها ويبادلها قرب جزيرة كريت بالأموال ليساعد بها المحتاجين، هو نفسه الذي ينتقم بإغراق السفن بغض النظر عن جنسيتها، لأنه فقد أسرته ووالديه يوماً بسببها. وهكذا بات أروناكس يتطلع إلى الحرية كصديقه الصياد نيد لاند.

وسرعان ما هاجمتهم بارجة بقيادة الكابتن فاراجات بقذائفها. قرر نيمو الاصطدام بها وإغراقها، وتأثرت بذلك الغواصة، ودار حديث بين البحارة حول دوامة قريبة، وحانت عندها فرصة الهروب عندما اقتربوا من الأرض، فقد جاء نيد لاند ليخبر أروناكس بالفرصة السانحة، فتسلل أروناكس بخفة من الغواصة وسمع القبطان نيمو يردد في غرفته: «يا إلهي.. كفى.. كفى».

أسس علمية

تمثل الرواية أنموذجاً رائعاً لهذا الخيال الخصب الناضج، إذ استطاع جول فيرن ببراعته الأدبية أن يصور شخصية قائدها وصانعها الربان «نيمو» تصويراً دقيقاً نابضاً بالحياة، في ترميز إشاري للإنسان المثقف العالم الذي لم يجد من أبناء عالمه فوق اليابسة غير القسوة والجحود، فآثر أن يستغل علمه وماله في استحداث غواصة مزودة بكل أسباب الحياة تحت الماء.

ولا يملك القارئ إلا أن يمضي في مطالعة الرواية بشوق وانبهار؛ فهو يعيش مع الربان «نيمو» ويعطف عليه، ويعجب به، ويقدر ظروفه، ويتمنى لو أتيح له أن يقضي بضعة أشهر في هذه الغواصة الرائعة، ليرى من خلف نوافذها البلورية هذا العالم العجيب.

والحق أن جول فيرن يعرض لنا عالم البحار عرضاً باهراً نابضاً بالحياة، مستنداً إلى أسس علمية صادقة، وإلى أبحاث معترف بها سبقه إليها الكثيرون من أساتذة علوم الطبيعة والبحار. ولا مراء في أن القارئ ستتملكه عوامل الدهشة والانبهار .

وهو يرى بأعين أبطال القصة ألواناً من عجائب البحار، إذ سيشهد في كل بحر ومحيط أنواعاً من الأسماك والوحوش البحرية والمحار والأصداف والثدييات البحرية.. والنباتات ذات الألوان الزاهية، ومن الشعب المرجانية والمتحجرات النباتية والعناصر المعدنية التي تكتنز بها أعماق البحار.

كلها في فصول رائعة تنبض بالحياة، وتقوم على أسس علمية صحيحة، وتبدو كأنها من صميم الواقع الذي لا أثر فيه للخيال.

Email