«مسرحياتي مثيرة تحريضية، تماماً مثل الوسيط الكيميائي في التفاعلات الكيميائية، فإذا أردت أن تعرف ما العناصر التي تؤلف سائلاً أو محلولاً ما، نضيف إلى الأول سائلاً آخر، وعندها قد يصبح لون المزيج أزرق، أو قد يغلي، أو يتغير، معطياً ناتج التفاعل. أنا أفعل الشيء ذاته كمهرج، وكل ما أصنعه، هو أني أضع بضع قطرات من العبث في هذا المحلول الهادئ الساكن، الذي هو المجتمع، فيكشف التفاعل عن أشياء كانت مخبأة، قبل أن يخرجها البعث إلى العراء».
بهذه الكلمات، يصف الفنان الإيطالي الشامل داريو فو، كتاباته المسرحية العديدة، التي شكلت تطوراً للمسرح الإيطالي، حمل معه ملامح الكوميديا الإيطالية الحديثة، التي مهّد لها كارلو غولدوني في أعماله المسرحية، صاحب الملهاة الإيطالية الحديثة. ومن جانبه، حمل داريو فو على عاتقه، ربط الملهاة الإيطالية الحديثة بالسياسة، لتصبح أعماله رسالة سياسية تحريضية لاذعة. وتعد مسرحية «موت فوضوي صدفة»، واحدة من أهم الأعمال المسرحية التي قدمها داريو فو، الفائز بجائزة نوبل، كما تعتبر من أهم الأعمال المسرحية الإيطالية على الإطلاق، نظراً لما تحمله من فنّ خاص وتقنية عالية، فضلاً عن الحسّ الكوميدي والانتقائي للجمل والكلمات.
«موت فوضوي صدفة»، اسم يدعو إلى التأمل والتوقف طويلاً أمامه، فهو يثير سؤالاً، حول كيف يكون الموت فوضوياً وصدفة في الوقت ذاته؟، ليظل القارئ منتظراً لماهية هذا الموت غريب الأطوار، ولكنه سرعان ما يدرك أن كل شيء جائز مع درايو فو. أما عن كلمة «فوضوي»، فهي المسمى الذي أطلقته الشرطة الإيطالية آنذاك على الإرهابيين أو مثيري الشغب، وبهذا، يصبح العنوان مفهوماً بصورة أكبر، فالفوضوي مات صدفة!
خلفية
تعتمد المسرحية في قصتها على حدث حقيقي، يعود إلى عام 1969، وبالتحديد في عصر 12 ديسمبر، حيث انفجرت قنبلة داخل المصرف الوطني الزراعي في قلب مدينة ميلانو، وأسفرت عن مقتل 16 شخصاً وجرح 88 آخرين، وقد كان لهذا الحادث مضاعفات سياسية خطيرة في كل أرجاء إيطاليا، حيث أطلقت حملة اعتقالات فورية من قبل الشرطة لذوي النشاط السياسي من اليساريين والمتعاطفين معهم، في كل أنحاء البلد، حيث اعتقل أعضاء في المنظمات اليسارية المتطرفة، وعدد كبير من أعضاء الحزب الشيوعي أيضاً، وتم اقتيادهم إلى الشرطة، للتأكد من هويتهم، واحتُجز المثيرون لأيام دون إطلاق سراحهم بكفالة، أو السماح لهم بالاستعانة بالمحامين.
وفي هذا الوقت، تم استدعاء عامل سكة حديد من سكان ميلانو، يدعى جيوزيبه يبنيلي، وهو عضو في مجموعة إرهابية صغيرة، إلى مقر القيادة المركزية للشرطة، من أجل «الاستجواب»، وأبقي عليه في السجن لـ 3 أيام، قامت الشرطة خلالها باستجوابه بطريقة وحشية، وعلى نحو متواصل. وفي الأثناء، سقط العامل من نافذة الطابق الرابع لمقر القيادة، ليتم الإعلان رسمياً أن موته كان انتحاراً، وأنه اعترف بالذنب. كما اعتقل شخص فوضوي آخر من مدينة روما، يدعى بييترو فالبريدا، بالإضافة إلى عضوين آخرين من مجموعته، في كمين للشرطة، وتم اتهامهم رسمياً بعملية التفجير، وبقوا في السجن 4 سنوات تقريباً، قبل تقديمهم إلى المحاكمة.
حقائق
وفي محاولة من الشرطة لإسكات المحاولات المستميتة من المحامين لمعرفة حقيقة هؤلاء المحبوسين، والقتيل الذي مات بالصدفة، نظمت الشرطة ملفات بأسماء 1400 عامل وطالب ونقابي ومناضل سياسي، وجرَتْ مئات الاعتقالات والتفتيشات. وعلى الصعيد الآخر، استطاع اليسار بجهوده الخاصة، أن يكشف عن نتائج فاضحة، تشير إلى أن التفجيرات التي حدثت في موقع البنك، تم التخطيط لها وتنفيذها من قبل منظمة فاشية جديدة، وهو ما يكشف براءة ساحة المعتقلين الثلاثة، وعامل السكة الحديد الذي مات بدم بارد. وهنا، أثبتت المسرحية مظهر هشاشة النظام الأمني والعسكري الإيطالي، واستنادهم على أي شيء لإثبات ما يريدون فقط، لتهدئة الرأي العام، لا سيما مع معرفة أن ضباط الشرطة الذين كانوا يحققون في هذه القضية، لم يحاسبوا.
استهلال سريع
قدّم فو هذه المسرحية في ديسمبر 1970، أي بعد عام تقريباً من وقوع الحادث، وهو ما يعتبر استهلالاً سريعاً، وقراءة معاصرة للأحداث التي مرت بها إيطاليا وقتها. كما يستعين داريو فو أيضاً بواقع موازٍ، انطلاقاً من قصة حقيقية لحادثة وقعت في الولايات المتحدة الأميركية عام 1921، فقد ألقى فوضوي اسمه «سالزيدو»، مهاجر من أصول إيطالية، بنفسه من نافذة بالطابق الـ 14 من مقر قيادة الشرطة المركزية في نيويورك، وصرح رئيس الشرطة آنذاك، أنها حادثة انتحار.
مع هذا، فإن قراءة المسرحية ومشاهدتها وفهمها، لا تتم إلا بربطها بالواقع الإيطالي، وملامح القضية التي وقعت في البنك الزراعي الإيطالي، نظراً لتطرق داريو فو إلى تفاصيل شكلية ولفظية، ترتبط بالضباط الذين كانوا يتولون مهمة التحقيق في قضية التفجيرات.
وفي هذا السياق، تطرق داريو فو، إلى شخصية «المفتش ذي الملابس العادية» لويجي كالابريزي، رئيس الفريق الذي تولى التحقيق مع عامل سكة حديد بينيلي، الذي قُتل صدفة. وهناك أيضاً شخصية «الرئيس»، الذي يمثل شخصية «ماتشيلو غويدا»، الناطق باسم الشرطة، والمتهم بمهمة التغطية على المسؤول الحقيقي عن موت الفوضوي. وأخيراً، شخصية «الصحافية»، في صورة شبه حقيقية للصحافية الشجاعة المستقلة «كاميلا تشيديرنا»، التي لعبت دوراً أساسياً في كشف أسرار القضية.
قراءة
يقدم فو حيلة ذكية، لتوريط المشاهد أكثر في قراءة أحداث المسرحية بصورة موضوعية، لا تخلو من السخرية، حيث يقدم تقنية «المسرحية داخل المسرحية»، هذه الحيلة التي توضح التلاعب الذي حدث في قضية موت الفوضوي والتفجيرات. كما يقدم فو بُعداً من الفانتازيا، وسط محاولات الشرطة في التغطية على تسرعهم وتعاملهم الخاطئ مع القضية. وكما هو حال الواقع، تسير المسرحية، حيث لا ينتهي التحقيق القضائي، بل تستمر في تكرار نفسها مرة تلو الأخرى، على شكل قمع وعنف وأكاذيب رسمية ومؤامرات تحركها السلطة.
يصعب التعامل مع الرواية في ترجمتها العربية، نظراً لاعتماد المسرحية الأصلية على لهجة عامية بالإيطالية، وتلميحات تعتمد على المعرفة باللغة الإيطالية والتلاعب بمفرداتها، كما أن هناك إسقاطات عديدة في المسرحية، تعتمد على المعرفة الكاملة للقصة الأصلية، وهذا يحيلنا إلى النظر للمسرحية بانتمائها إلى الملهاة الإيطالية الحديثة، التي اعتمدت على شخوص معروفة صفاتهم مسبقاً، ما يزيد من متعة كوميديا «دي لارتي» الإيطالية الشهيرة.