«الأنفس الميتة» رائعة الأدب النثري الروسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعتبر رواية «الأنفس الميتة» للروائي الروسي نيقولاي غوغول من أجمل روائع الأدب النثري في روسيا، وقد وصفها الكاتب نفسه بـ«القصيدة»، وبـ«رواية من الأبيات» مصرحاً في عام 1836 بأنها ستكون من ثلاثة مجلدات، لكنه بعد إنهاء المجلد الأول لم يتمكن من استكمالها، وربما أحرق مخطوطة المجلد الثاني قبل وفاته لأنه عجز عن الارتقاء بها لمصاف الأدب الرفيع الرائع الذي كان يصبو إليه، حيث يفيد في إحدى رسائله: «هناك أوقات لا يمكنك فيها أن تحض المجتمع أو حتى جيلاً كاملاً على ما هو رائع وجميل، إلا إذا أظهرت كل عمق وضاعته الراهنة»، مشيراً إلى أن هذه الناحية كانت «ضعيفة التطور في المجلد الثاني، ولهذا أحرقه».

معظم كتبه مشبعة بالخيال والسخرية والفكاهة في إبرازها لطبيعة النفس البشرية، فـ «الأنفس الميتة» كانت موكلة بالكشف عن أسرار الحياة الروسية، وتمكن الروائي من نقل صورة شاملة للنظام الاجتماعي في روسيا بعد غزو نابليون.

وفي الرواية عرى مجتمع ملاكي الأراضي المزارعين (الكولاك)، متعمقاً في أفكار تلك الطبقة، ومتعرضاً بالنقد الجارح والصريح لزيفها، كما للفساد الذي كان يعم دوائر الدولة. ويقال إنه اضطر إلى الاستعانة ببعض الأصدقاء في موسكو لإقناع المعنيين بطباعة الرواية عام 1842.

سيد المحاكاة الساخرة

في «الأنفس الميتة» يقدم سيد المحاكاة الساخرة، شكلاً جديداً من الأدب يميل للطابع الكاريكاتوري الساخر في إبرازه طبيعة النفس البشرية. وفي تصويره لمجتمع مالكي الأراضي يقسم أولئك إلى بدناء سمان بوجوه مستديرة يحتلون المقعد الأمامي دائماً ويجلسون بثبات وثقة أينما كانوا، ويجمعون الثروات الكبرى، فيما النحيف بينهم لن تجد عنده فلاحاً لم يرهنه، ويتحدث بصراحة عن الفساد الذي يغذي طبقة من المسؤولين الحكوميين، بما في ذلك بطل الرواية تشيتشكوف الذي يتفوق على زملائه دهاءً بطرق الرشوة والابتزاز بأدبه ولباقته، حتى يقول مقدمو الطلب بدائرته الحكومية «هذا الرجل جوهرة لا تقدر بثمن» قبل أن يتحسروا على سلفه.

يقول الكاتب إنه لم يتمكن من اختيار شخصية فاضلة لبطله، لأن «الرجل المحترم» في روسيا كان قد جاع وفقد الاحترام. ويصف بطله بالسافل الذي تعلم كل ما هو ضروري بهذه الحياة، لا سيما التملق منذ صغره مع أساتذته ومديريه للوصول إلى هدفه.

في الرواية وصف دقيق، يتصف بالقسوة، لحياة مالكي الأراضي الذين تحسب ثروتهم بعدد «الأنفس» لديهم، حيث تتبدى لنا حياتهم غارقة بالتقليد في كل شيء، فيما لا يزال الذوق الروسي يعتريه الكثير من الخشونة والصلافة. فاللوحات الفنية تأتي من إيطاليا وينقلها أشخاص مجهولون يدعون أنهم خبراء، فيما النظرة إلى «أساس الفضيلة يقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية: اللغة الفرنسية والعزف على البيانو والحياكة وإعداد المفاجآت للأزواج».

واللافت أن غوغول كان ملماً بتفاصيل تلك الطبقة الاجتماعية، فقد ترعرع وسطها، فقد كان لعائلته حوالي 400 قن من الفلاحين، ومن مسقط رأسه تعلم النوادر.

وتحول غوغول خلال ذلك لكاتب اجتماعي سليط بأسلوب فكاهي خاص، وتميزت كتاباته بالقدرة على الملاحظة، وتصوير التناقضات الاجتماعية، مع مخيلة محلقة وموهبة هزلية، ولهذا تستلزم قراءته النفاذ لوصفه أصغر التفاصيل. فالمظهر الخارجي للأشياء والتأمل في الشخصيات وأقوالها هي مجالات لظهور اللامعقول والسماجة والمبالغات. لكن وسط هذا القالب الهزلي المبالغ به، هناك لمحات فلسفية مريرة عن ضلال الإنسان، مما يضفي على الرواية الفكاهة المأساوية.

تدور الرواية في روسيا القيصرية قبل تحرير الأقنان في 1861 حيث المكانة الاجتماعية لملاك الأراضي، كانت تأتي من عدد «الأنفس» أو الأقنان لديهم. وكان مُلاك الأراضي مجبرين على دفع ضريبة عن كل نفس، رغم احتمال وفاة بعضهم، حتى قدوم التعداد السكاني التالي. ويكتشف أحد موظفي الدولة فرصة للثراء عبر شراء «الأنفس الميتة» بأسعار زهيدة. وحول هذه الخطة تدور قصة بطل الرواية تشيتشكوف الذي يجول في أنحاء القرى في روسيا، متنقلاً مع سائقه بعربة مع ثلاثة أحصنة، ناقلاً بانوراما للأرياف من خلال شخصيات محلية يرسمها بطريقة هزلية مبيناً عيوبها.

جانب كبير من روعة الرواية يكمن في رسم شخصياتها بمبالغة ظاهرة، فهناك بطل الرواية الانتهازي تشيتشيكوف الراضي عن نفسه بشكله الدائري، إلى جانبه مالك الأراضي سوباكيفيتش، رجل سليط اللسان الاقتصادي يشبه الدببة، ومانيلوف العاطفي حد السخافة، والأرملة المشككة الحمقاء صعبة المراس كوروربوتشكا، والمقامر الغشاش والمتنمر نوزدريف الذي يقدم نفسه على أنه الصديق الطيب فيما لا ضابط على لسانه، وبلوشكين البخيل الذي يمثل البؤس في عمق انحطاطه. كل واحد منهم يجمع بطريقته الخاصة الجشع والفساد والخوف، وطرق المراوغة في عقد الصفقات.

حبكة الرواية

تستهل الرواية بوصول تشيتشيكوف في متوسط العمر من الطبقة الوسطى بلدة صغيرة تدعى «أن أن»، واستقراره في فندق عادي. يقول الكاتب نابوكوف إن غوغول ظاهرة غريبة «في بناء الجمل التي تولد الحياة»، فمن لحظة دخوله غرفة الفندق تُنفث الحياة في المكان، إذ «ما إن يستحصل على غرفة حتى تطل الصراصير الشبيهة بإجاص مجفف من جميع أركانها، وأما الغرفة فهي ذات باب مستور كالعادة بدولاب ويؤدي إلى الغرفة المجاورة حيث يسكن جاره صامتاً مرخياً أذنيه يتحرق شوقاً لسماع كل هنة من القادم الجديد».

وخلال العشاء، نراه يستفسر من النادل عن كل شيء يحدث في البلدة، بمن في ذلك المسؤولون الأكثر نفوذاً ومالكو الأراضي الكبار، الذين يتعرف على بعضهم خلال حفلة استقبال لدى الحاكم، حيث يصنع لنفسه سمعة طيبة فيدعوه مالكا الأراضي، سوبافيتش ومانيلوف، إلى منزلهما.

منطلقاً في المناطق الريفية، يعتقد تشتشيكوف في البداية بأن مُلاك الأراضي سيكونون أكثر من مسرورين للتخلي عن الأنفس الميتة مقابل دفعات مالية، لكن مهمة جمع حقوق الأنفس الميتة تحمل برهاناً الجشع والشك وعدم الثقة من ملاك الأراضي. لكن سيتمكن مع ذلك من الحصول على 400، وسيطلب من الباعة التزام السرية أثناء تسجيل المعاملات. وفي غضون ذلك، يصف غوغول الأوضاع البائسة للأرياف.

بعد عودة تشتشيكوف للبلدة، يعامل كالأمراء من قبل المسؤولين، ويقام احتفال على شرفه. وفجأة، تندلع الشائعات بأن الأقنان الذين اشتراهم موتى، وأنه يخطط لخطف ابنة الحاكم، وكان وراء ذلك نساء استأن من معاملته الجافة، فيما كان منشغلاً بجذب انتباه ابنة الحاكم.

Email