لا يخفى على أحد، سواء من المتخصصين في مجالات الفنون أو من عامة الناس، عمق تأثير الفنون الإسلامية في نظيرتها الأوروبية بمكونها العام، وذلك منذ القدم، حيث تجلى هذا في تصميم وإبداع جملة روائع تشكيلية ومعمارية ونحتية نتبينها شاخصة في الكثير من مدن أوروبا العريقة. وليس أدل وأبلغ في هذا الصدد، من شهادات عمالقة الفن الأوروبي والعالمي، عن تأثير الفنون الإسلامية في الذائقة والذخر الإبداعي لدى كل منهم.
وكان بارزاً في هذا الشأن ما عكف على رصده وتوضيحه ثلاثة من خيرة المستشرقين، عُرفوا بالإنصاف والأمانة العلميّة، في كتاب مشترك أنجزوه، بعنوان (تراث الإسلام في الفنون الفرعيّة والتصوير والعمارة)، نقله إلى العربيّة الدكتور زكي محمد حسن - أمين دار الآثار العربيّة في القاهرة وصدر العام 1936. إذ يضم الكتاب أبحاثاً ثلاثة تعكس مدى تأثير الفنون الإسلاميّة المختلفة في الفنون الأوروبيّة. والأول هو (الفنون الإسلاميّة الفرعيّة وتأثيرها في الفنون الأوروبيّة) كتبه أ.هـ. كريستي، أما الثاني (الفن الإسلامي وأثره على فن التصوير في أوروبا) فهو لتوماس أرنولد، وكتب الثالث (فن العمارة) مارتن س. بريغز.
في تقديمه للكتاب، يُشير المترجم إلى أن الإسلام ورث فنون البلاد التي افتتحتها جيوشه المنصورة، حيث تأثر المسلمون بالأساليب الفنيّة التي ازدهرت في سوريا ومصر وبيزنطة.. وغيرها الكثير، ولكنهم ما لبثوا أن أفرغوها في قالب متجانس، متناسب، فظهر في عالم الفنون فن، بل فنون، إسلاميّة، أثّرت بدورها في فنون الغرب تأثيراً لا يزال ظاهراً حتى اليوم.
ويرى المستشرق كريستي أنه إذا فات المسلمون أن يطالوا ويضاهوا أوروبا في الفنون الجميلة (إذا استثنينا فن العمارة وحده) فإن نجاحهم في الفنون التي انطلقت فيها عبقريتهم، لم يكن له مثيل في العصور الوسطى، فلقد كان الإسلام الوارث المباشر للكثير من الأساليب الفنيّة، وتقاليد الحِرف القديمة التي لم تكن معروفة في الغرب.
نشأة
يؤكد كريستي أن نشأة الفن الإسلامي، كانت في المساجد. ففيها ولد، في وضح النهار، وفي رحابها نما وترعرع تحت رعاية القوم، وبين أنظارهم، وكانت المساجد الأولى أبنية عاديّة، أُقيمت للصلاة والوعظ وحدهما. وعندما انتشر الإسلام، وامتد سلطانه إلى كثير من بلاد الله، اختلط العرب بغيرهم من الشعوب، ما أدى إلى اتساع أفق الفن في أعين المسلمين الذين استطاعوا في حدود الالتزامات التي فرضها عليهم الدين أن يخرجوا - بفضل هذا الاختلاط - صوراً جديدة للمثل الأعلى في الفن عندهم.
أصناف
يُحدد كريستي الفنون الفرعيّة بالفنون التي كان يزاولها الصنّاع الذين كانوا يُستدعون لتأثيث الأبنية، بكل ما يلزمها من ضروري أو كمالي يتطلبه الغرض الذي أُنشئت من أجله. وهي بشكل عام، فنون يُنتفع بها، أو تُتخذ للزينة والزخرف، وبالرغم من غرابتها، إلا أن هذه الغرابة جذابة، تبعث على الخيال، وكل أجزائها مرسومة بمهارة فائقة، وكامنة فيها حيويّة يصعب إدراكها، وهي ليست مجرد وسيلة لملء فراغ، أو تغطية أشكال، وإنما هي أصول جوهريّة لدقة الصناعة، من دونها يُعد الأثر الفني ناقصاً، لأن الفنان المسلم القدير الذي كان يُنفذها، كان يعمل للفن قبل كل شيء. في خدمة الحياة
توزعت الفنون الفرعيّة الإسلاميّة على المشغولات والصناعات اليدويّة التي تُسعف الإنسان في ممارسة حياته اليوميّة، بأشكالها كافة، والمنفذة من مواد وخامات مختلفة كالصناديق المتعددة الاستخدام والأباريق والكؤوس والصواني والمقالم والسجاجيد والنسيج والخزف والأثاث وأغلفة الكتب.. وغيرها.
وصفوة القول، إنه برع في التأثر بمهارة المسلمين الفنيّة فريق من كبار الصناع الأوروبيين كأوديركس من مدينة روما الذي رسم الزخرفة الإسلامية عام 1286 على بلاط الرخام المطعّم في جزء من هيكل كاتدرائيّة وستمنستر، ووليم موريس الذي نسج زخارف إسلاميّة أخرى في المخمل المصنوع سنة 1884.. وهناك غيرهما الكثير ممن كان لهم الفضل في إنعاش فن الغرب وسقايته من المعين الذي كان يُعتبر في نظر الأوروبيين منهلاً دائماً للغرب أكثر منه إرثاً خلّفه الإسلام.
تأثيرات
وفي بحثه (الفن الإسلامي وأثره على فن التصوير في أوروبا) يُشير توماس أرنولد إلى أن الأثر الذي نشأ عن الاحتكاك المباشر، بين العالم المسيحي والثقافة الإسلاميّة، لم يظهر في فن التصوير ظهوره في فنون النحت والعمارة وصناعة المعادن.
إذ تجلى هذا التأثير، بوجه خاص، في استعارة الموضوعات الشرقيّة في أعمال الزخرفة، وكان في أغلب الأحوال مقصوراً على تفصيلات ثانويّة، وصلت إلى الغرب عن طريق الحرير وغيره من المصنوعات والموضوعات الإسلاميّة، التي بدأت تدخل في فن التصوير في ممالك: جنوا وبيزا والبندقيّة، التي كانت في ذلك الوقت، مراكز الاتصال التجاري بالشرق. أما الحروف العربيّة، فظهر استعمالها في التصوير الإيطالي منذ أيام جيتو. وكان فرا أنجيليكو وفرا ليبو ليبي مغرمين بالزخرفة العربيّة التي استخدماها في تصميم أكمام ثوب السيدة العذراء، وحواشيه.
عمارة
وأما في (فن العمارة) فيلفت مارتن س. بريغز إلى أن العربيين، لم يكونوا حضريين، بل كانوا قوماً رحّلاً متنقلين. وعندما تركوا القتال ليقوموا بمهام الحكم، كان لا مفر لهم في المسائل الفنيّة، من الالتجاء إلى صنّاع وطنيين في الولايات المفتوحة، أو إلى صُنّاع أُتي بهم من إحدى هذه الولايات، إلى ولاية أخرى.
دَيْنٌ كبير
يؤكد مؤلفو كتاب تراث الإسلام في الفنون الفرعيّة والتصوير والعمارة، أن دَيْنَ العالم الغربي للإسلام في فن العمارة كبير جدا، ومن بينها العمارة الحربيّة، حيث قام الصليبيون بتشييد الكثير من الكنائس والقلاع الجميلة المستلهمة من العمارة الإسلاميّة، كما أخذ الغربيون عن العرب استخدام العقود ذات الفصوص المتعددة.. واسم أرابيسك الذي يُطلق على الموضوعات الزخرفيّة التقليديّة، يدل على أن الغرب مدين بهذه الزخارف للعرب.