«الأوديسة» ملحمة انتصار العقل على القوة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ ظهورها باللغة الإنجليزية، حوالي العام 1615، بترجمة تحمل توقيع جورج تشابمان، وملحمة الأوديسة التي تخبر قصة الملك الإغريقي المحارب أوديسوس، وسوء القدر الذي لازمه عشر سنوات، تحظى بإقبال لنقلها «ترجمتها» واقتباسها لا يخفتان، إذ إنها سطرت مساعي أوديسوس للعودة إلى موطنه إيثاكا من حرب طروادة، وزوجته بينلوب، حيث انتشرت بعض من 60 ترجمةٍ بالإنجليزية وبوتيرة متسارعة وصدر أكثر من نصف الترجمات في السنوات المائة الأخيرة، بجانب عشرات الترجمات في العقدين الماضيين. إلا أنه ومن بين هذا الكم من الترجمات لـ«الأوديسة»، تبرز ترجمة الإنجليزية، إيميلي ويلسون، التي أبصرت النور، أخيراً، وذلك كونها الصيغة الملحمية الأولى للعمل، الموقعة باسم امرأة.

لا تزال الأسئلة الكبرى المطروحة حول ملحمة وضعت منذ حوالي ثلاث ألفيات وشهدت انتشاراً عظيماً، وتركت تأثيراً أكيداً على المؤلفين من فيرجيل إلى ميلتون وجويس، تتعلق بجوهرها بكيفية سعي ويلسون لإعادة تحديد معالم الثقافة الأدبية الحديثة، في طموح يبدو متوارثاً بجزء منه.

وتعترف ويلسون، التي تنتمي إلى عائلة عريقة في حقول الأدب والبحث الأكاديمي، أنها عاشت طفولة اتسمت بمشقة تسمية المشاعر وواقع أن التراجيديا نوع من الأدب يبرع في تحديد المسميات اللصيقة بالأحاسيس. وأشارت إلى أن الميراث الذي تحمله كان أدبياً بقدر ما كان مسألة حالة مزاجية.

اختبار

إن كنت تعترف بأهمية القصص، تقول ويلسون، فالأهمية تكمن في طريقة إخبار تلك القصص، على نحو ينطبق على المستوى الدقيق لاختيار الكلمات، كما على مستوى اختيار القصة وفحواها الفعلي. وإن سؤال ما هي القصة ؟ أمر يعتمد برمته على اللغة والكلمات المستخدمة.

أحدثت ويلسون على امتداد ترجمتها لـ«الأوديسة»، تغييرات بسيطة تبين أنها راديكالية من منطلق أسلوب طرح عدد من المشاهد الأساسية للملحمة. «راديكالية» بمعنى أنه على مدى 400 عام من ظهور الصيغ المختلفة للقصائد، فإن أي مترجم لم يدخل على النص التغييرات التي أقدمت ويلسون عليها، تغييرات تذهب إلى حدّ تصحيح النص الذي تعتبر أنه كدّس، على مسار الترجمات، كمّاً من التشوهات التي أثرت على طريقة نقاش المثقفين أنفسهم للنص الأصلي. ويبدو أن التغييرات تلك تطالبنا مع كل مقلب، بتقدير ثقل الأحداث المتكشفة والثمن الإنساني لفروقات التفكير. تستهل «أوديسة» ويلسون ترجمتها الملحمية بمقاطع:

«خبريني عن ذاك الرجل المتأزم.

أيا عروسة الشعر قولي لي كيف طاف وتاه؟

حين هدم طروادة العظيمة

إلى أين ذهب، ومن التقى؟ عن الألم

الذي أججته عواصف البحر الهائجة حدثيني

وعمّ فعل لينقذ حياته ويعيد رجاله للديار

عن عجزه في إبقائهم بمأمن أولئك المساكين

الذين أكلوا من قطيع إله الشمس فأقصاهم عن الديار.

خبريني أيتها الآلهة، يا ابنة زيوس، القصة القديمة عن زمننا الحديث.

اعثري على البداية».

مباشرة بيّنة

لا بدّ أن تتسمّر عند قراءة أسطر لم يطالعك مثلها من قبل. لم يسبق بالطبع لأية «أوديسة» أن بدت على هذا النحو، أو اتسمت بهذا القدر من المباشرة التي لم تظهر الأشطر معها وكأنها فصّلت لتأتي على قياس وزن شعري خماسي ما بناءً على قرار استراتيجي، بل إن الوزن هو صيغة المتحدث الطبيعية. وتتلخص عبقرية خيار ويلسون بجانب منها في صراحتها البيّنة باستخدام تعبير «المتأزم»، الذي لا يقل ثقلاً عن اشتقاقه باللغة الأصلية.

وقصدت ويلسون، كما تؤكد، أن يكون للكلام معنى يحمل ما يوحي بوجود خطب في الرجل، أن يحمل القارئ على استشعار معنى اضطراب الشخصية، ووجود طبقات آيلة للتكشف لا نعرف طبيعتها بعد، تنذر بأننا على مشارف نص لن يكون على هذا القدر من الصراحة التوضيحية.

تتسم إحدى طرق الحديث عن ترجمة ويلسون للأوديسة، بالإشارة إلى أنها تشن حملةً مستدامة ضد أنواع قصر النظر الثقافي، بمعنى أنها تجد المتوازيات في اللغة الإنجليزية التي تتيح للتعابير المختارة بأن تؤدي معنى الكلمات الأصلية، حتى لو لم تكن الكلمات الإنجليزية تعتبر «صحيحة» وفقاً للمعجم الإغريقي.

نقاشات محمومة

شكلت هذه الترجمة الجديدة، بما تفعله، وبما يجب أن تفعله، مصدر نقاشات محمومة بشكل لافت منذ أن وجدت نصوص قابلة للترجمة. وتعرب ويلسون عن اعتقادها، بالرغم من أنها ليست متدينة، كما تقول، بأن نوعاً من الممارسة الدينية تسير يداً بيد مع الترجمة في العمل، وأنها تحاول أن تخدم قضيةً ما.

ولا تولي ويلسون مسألة جنس المترجم تلك الأهمية الكبرى، ولا تحيلها إلى مصاف الثوابت التي تتمسك بها. وهكذا فإنها حاولت بالجوهر، أن تتصدى لمهمة ترجمة «الأوديسة» بعمق.. وعملية الاستجابة للنص الأصلي وابتداع النص المترجم بجدية فائقة، بكل ما أوتيت من قدرات لغوية وشعرية وعاطفية. وفعلياً، لا بد أن يكتنف سرُّ ما حقيقة إمكانية ترجمة الأسطر عينها، بمئات الطرق المختلفة وقابلية الدفاع عنها، وبمختلف الطرق كذلك، لكن ويلسون تشدد بإصرار متخذ قرار صعب، إلى أن خيارها يستند إلى إيمان راسخ في رغبة التحلي بالمسؤولية الكاملة حيال علاقتها بالنص الإغريقي. وقد قالت بعد عدد من المراجعات كلمتها الفاصلة: «إنه أفضل ما توصلت إليه على درب الحقيقة».

ويأتي هذا طبعاً، في ظل حقيقة أنه، وإن كانت الإلياذة ملحمة عن القوة، تبقى الأوديسة ملحمة انتصار العقل على القوة، كما تشرح ويلسون وغيرها من المتخصصين، فهل تحقق ويلسون بترجمتها انتصار الحداثة على الكلاسيكية.. خصوصاً وأنها تبرز هذه التيمة للعمل كأساس وقيمة طاغيين وبارزين؟

1971

تتحدر مترجمة العمل، إيميلي ويلسون، المولودة عام 1971 في أكسفورد، من عائلة عريقة من الأكاديميين لناحية والدتها كاثرين دنكان جونز، المتخصصة في الأدب الشكسبيري، وخالها أستاذ التاريخ الروماني في جامعة كامبريدج. أما جدها وجدتها إليز دنكان جونز، فهما أستاذا جامعة بيرمينغهام.

Email