جوالو الفن الإبداع رسالة بطولية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تغص العديد من المدن العالميّة، بفنانين تشكيليين يفترشون الشارع، ويقومون بممارسة فنهم مباشرة أمام الناس، لأسباب عدة، منها كسب المال (كما هو الحال في الشارع الباريسي الشهير مونمارتر)، ومنها البحث عن الموضوع المناسب، ومعالجته في أرض الواقع، بهدف تزخيم العمل الفني، بأقصى ما يمكن من التأثيرات التي تأوي إلى حواس الفنان، نتيجة وجوده المباشر بين أحضان البيئة الطبيعيّة.

أو حيث يوجد الناس، وهذه البيئة مختلفة عن بيئة المحترف الذي يقوم فيه الفنان بإجراء تجاربه وأبحاثه، ضمن بيئة صنعيّة. ومن أبرز وأهم ظواهر الرسم في الهواء الطلق (الانطباعيون) الذين هجروا محترفاتهم، وخرجوا إلى الطبيعة، بهدف تسجيل الانطباع البصري.

كما تحسه العين مادياً وآنياً، راصدين تبدلات الطبيعة، بحسب الضوء والمناخ والفصل والساعة، الأمر الذي جعلهم يصوّرون الأشياء، استناداً إلى ما يرونه، وبسرعة كي يتمكنوا من تسجيل معالم الطبيعة الأكثر دقة وشفافيّة، والأسرع زوالاً.

أخذت ظاهرة الفنانين الجوالين الذين يمارسون فنهم في أرض الواقع، ويؤمنون أن الفن رسالة رفيعة المستوى وبطولية في سبيل الحقيقة، بين أحضان الطبيعة كالانطباعيين.. أو في الشارع بين الناس، صيغاً وأشكالاً وأهدافاً مختلفة (كما يُشير كتاب «مدرسة الفنانين الجوالين» لمؤلفه الدكتور علي خليل). فهي إما فرديّة أو جماعيّة، تجع المنضوين فيها، هواجس وأهداف مشتركة، مثل:

جماعة أبوللو في باريس، جماعة الجسر في مدينة دريسدن الألمانيّة، تجمع الانطباعيين في فرنسا، رابطة الجوالين في روسيا، مجموعة جسر تشارل في براغ، تجمع الباربيزون في باريس، جماعة ما قبل الرافائليين في بريطانيا.. وغيرها من التجمعات الفنيّة التي ظهرت في حقب زمنيّة مختلفة.

أهداف مختلفة

أخذت جماعة الجسر الألمانيّة اسمها من جسر يربط بين ضفتي نهر الإلبه الذي يخترق مدينة دريسدن بألمانيا، القادم إليها من مدينة براغ التشيكيّة، حيث يوجد جسر تشارل الذي يتخذه عدد من الفنانين، مرسماً دائماً لهم. انضمت جماعة (الجسر) في دريسدن، إلى جماعة (الفارس الأزرق) وقد قامت الحركتان بالتأسيس لولادة التعبيريّة الألمانيّة، التي لم يقتصر تأثيرها على الحركة الفنيّة الألمانيّة فحسب، وإنما امتد إلى الفن الأوروبي بشكل عام، ولاحقاً إلى الفن العالمي الذي لا يزال يتفاعل معها حتى اليوم.

قامتان

جاءت غالبية هذه التجمعات الفنيّة، احتجاجاً على رفض الجهات الوصائيّة، دخول بعض أعمال المشاركين فيها، إلى المعارض الدوريّة التي تقيمها الدولة أو الجمعيات شبه الرسميّة، من هؤلاء المرفوضين، فاسيلي كاندينسكي الذي رفضت جمعيّة الفنانين الألمان عملاً له، والفرنسي إدوارد مونيه ومجموعة من رفاقه الذين رُفضت أعمالهم من قبل محكمي (الصالون) بباريس، ما دعاهم إلى رفع التماس إلى الإمبراطور (نابليون الثالث) .

وإقامة معرض خاص بهم عُرف باسم (صالون المرفوضات) الذي تحوّل إلى نقطة تحوّل كبرى في تاريخ الفن، مهدت لبدء حركة الحداثة الفنيّة. أما جماعة (الباربيزونون) الانجليزية، فقد اعتمدت في فكرها الجمالي على تقاليد الفن الغوطي المتأخر.. وبدايات عصر النهضة، وصولاً إلى فن رافائيل سانزو.

وعملياً، أفلحت هذه التجمعات الفنيّة وغيرها، في تحريك ركود الفن التشكيلي العالمي، وهذا الحراك مهد لولادة الحداثة ومدارسها واتجاهاتها المختلفة.

مدرسة

ألفت مجموعة من الفنانين التشكيليين الروس أواخر العام 1871، كما يُشير الكتاب ، من أبرزهم: كرامسكي، ريبن، ششكن، بيروف، كامنف، سافراسوف، فاسيليف، بوبوف، ماكوفسكي، كونجي، رابطة فنيّة أطلق عليها اسم (الجوالون) تقوم بتنظيم معارضهم وأفكارهم، إلا أن طموح أعضاء الرابطة كان أوسع أفقاً، وأبعد مدى، يتعدى هذه الحدود إلى توسيع دائرة نشاطهم، وتعميق مدى تأثيرهم في الناس.

المعرض الأول

كان الفنانون الجوالون الروس يدركون جيداً، أن مصير حركتهم ومستقبلهم كله، رهن بنجاح معرضهم الأول الذي استمر: من 29 -11-1971 وإلى1- 2 - 1972. وكان لهذه المدة القصيرة من عرض لوحاتهم دور حاسم في تاريخ رابطهم. إذ لاقى المعرض قدراً كبيراً من الاعتراف والنجاح الذي فاق التوقعات، علماً أنه لم يُشارك فيه إلا ستة عشر فناناً من بطرسبورغ، بنحو 47 عملاً فنياً، جرى عرضها لاحقاً في موسكو وأوكرانيا.

وشجعت الصحافة المعرض فوصفته بالتجربة الجريئة لفنانين ديمقراطيين، يقومون بدور تنويري نوعي في جعل الفن غير مقصور على الخاصة من الناس، ولا حكراً على أحد، بل يستطيع مشاهدته من يشاء، ولكل إنسان الحق في الحكم عليه.

إن أول ما دفع التنويريين الديمقراطيين الروس المناهضين لطغيان النظام القيصري (بحسب الكتاب)، إلى تبني حركة الفنانين الجوالين، والدفاع عنها.. والدعاية لها، هو الهم الوطني، وتحسس آلام شعبهم الروسي ورغبتهم العميقة في النهوض به وبثقافته وذائقته الجماليّة، وفتح الآفاق أمام مواهب أبنائه.

اختلاف

كانت أكاديمية الفنون في العاصمة القيصريّة (سان بطرسبورغ) في ذلك الوقت، تُلقن الطلبة (وبينهم من أصبح فيما بعد في عداد مجموعة الفنانين الجوالين)، أن الهدف من الرسم هو تزيين البيوت والقصور، ومعالجة الموضوعات التي تناولتها لوحات السلف من قدماء الفنانين، أو التي وجدت أبطالها في شخصيات الكتاب المقدس، بينما كان للفنانين الجوالين رأي آخر يقضي برسم كل ما له قيمة أو مكانة في الحياة،.

وهي رؤية عملوا بكل صبر وجد على تحقيقها، فلم يكن مهماً في نظرهم أن يكون الموضوع جميلاً أو غير جميل، مسلياً أو مضحكاً أو حزيناً، بل كانت المسألة الأهم في الفن برأيهم، تتمثل في قول الحقيقة، فلا تنحصر مهمة الفنان الأساسيّة في التأثير على المشاهد بقد ما ترمي إلى تهذيب ذوقه الجمالي، والارتقاء بمقدرته على تلقي الفن والتعامل معه.

ويعتقد الفنانون الجوالون بأن على الفن أن يهدف إلى إيقاظ كل النواحي الايجابيّة في الإنسان، والسمو به، وتغيير حياة الناس نحو الأفضل. فالفنان لا يرسم فقط لإرضاء ذاته، وتجسيد موهبته، بل هو يرسم للمجتمع أيضاً، فالفن الحقيقي رسالة لا يستطيع أي كان ومن شاء، تأديتها.

هي أشبه ما تكون بالعمل البطولي الذي لا يقدر على اجتراحه إلا بطل. بمعنى آخر: لكي يُصبح الإنسان فناناً، لا تكفي موهبته ولا عقله، ولا توفر الظروف الملائمة، وإنما يجب أن تغمره السعادة، وأن يمتلك الحماسة والاندفاع للعمل بالفن الذي يمنحه لذة لا تعادلها لذة أخرى في الحياة.

 

 

Email