«بير غنت» ..

موسيقى نرويجية شرقية الروح والملمح

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

طلب الكاتب المسرحي هنريك إبسن في عام 1874، من مواطنه الموسيقي النرويجي إدوارد غريغ، كتابة موسيقى مسرحيته الجديدة بير غنت، فبادر غريغ بسرعة إلى كتابة الموسيقى ولكنه استغرق حوالي السنتين لإنهاء موسيقى المسرحية التي لاقت نجاحاً جماهيراً كبيراً على الصعيدين المسرحي والموسيقي، ما دعا غريغ الى تقديم العمل بشكل موسيقي صرف ومختصر. فقسمه الى متتاليتين تحوي كل منها أربعة مقاطع، أصبحت من أكثر الأعمال عزفاً عالمياً.

يستقبل بير غينت، في المتتالية الأولى، شروق الشمس في مصر، لكن أمام عينيه تتراءى صور من النرويج وطنه الحبيب. نسمع بدايةً ترنيمة هادئة شفافة قريبة من ترانيم الرعاة تتبادلها آلتا الفلوت والأوبوا، تتدفق بسلاسة مثل ساقية جبلية. إذ أراد غريغ أن يرسم ولادة الحياة كل صباح.

وتتوسع رقعة النسيج الصوتي عن طريق الآلات الوترية في منتصف هذا القسم، حتى تصبح قوية رنانة متعددة الألوان الهارمونية، لتعلن إعجاب المؤلف بعظمة الكون، ثم تأخذ الموسيقى بالتراجع إلى هدوئها الأول. فتعيد آلة الفلوت لحن الحنين الأول للوطن.

«موت ايزيس»

كتب الكثير من الباحثين الموسيقى عن عمق الحزن والأسى الذي استطاع غريغ بثه في هذا المفصل من العمل الذي تؤديه الآلات الوترية.

إذ يصور احتضار والدة بير، حيث يبدأ بلحن حزين صارم له ملامح موكب أو جوقة جنائزية، يتطور ببطء مدروس ويرتفع الى ذروة متوسطة سرعان ما تتهاوى كصرخة عميقة تتلاشى مع الريح. وتلوح فجأة بارقة أمل خلال كل ذلك الحزن، كناية عن تجوال بير ووالدته في السماء فلقائهما القديس بيتر، حسب مسرحية إبسن.

يقدم غريغ في هذه الرقصة تبايناً كبيراً لماهية المزاج بعد المارش الجنائزي. فبير الحديث الغنى يحلم بالسلطة والمجد، وخلال تجواله في الصحراء المصرية يلتقي بقبيلة من البدو، ويخترع الكثير من الاحداث ليوهم زعيم القبيلة وابنته الحسناء انيترا بمدى سلطته وغناه فترقص الحسناء أمام الغريب لتنال إعجابه على ايقاع لحن رشيق مرهف تعرفه الآلات الوترية بمرح بمرافقة آلة المثلث الرنانة التي تضفي مسحة شرقية راقية وتصوغ سهولة اللحن ونضارة التوزيع الاوركسترالي.. كما تساعد على رسم ملامح شخصية انيترا الآسرة الجميلة.

يبدو «في مغارة ملك الجبال»، الجزء الأكثر شهرة في هذه المتتالية فنحن أمام لوحة فنية حية. إذ نجد بير قد وصل مملكة الجبال، فنسمع خطوات المارش من آلة الفاغوت والكونترباص المنخفضة كأنها شخص قادم من بعيد. لحن عادي يبدأ بالاتساع والتوغل ويصبح قوياً صداحاً لأن المؤلف استخدم في الذروة الاوركسترا كاملة بمستويات لونية وصوتية جديدة براقة قوية لتهدر كسيل جبلي جبار.

2

«اختطاف العروس» في المتتالية الثانية، تشكل بداية اوركسترالية قوية تمثل مشهد العرس. وتنتهي بسرعة لتحل محلها بكائية العروس انغريد التي يختطفها بير غنت من عرسها، فنسمع آهاتها وبكاءها المرير الشاكي عبر لحن حزين للوتريات مكلل بالمرارة والضعف والخذلان، لأن بير غنت يهجرها في اليوم التالي لاختطافها.

الرقصة العربية

يعود بنا المؤلف مرة أخرى الى المنطقة العربية. فنسمع لحنا متقلب المزاج ذا صبغة شرقية تقريباً، تتناوب عليه آلات النفخ الخشبية. فتارة هي صداحة احتفالية.. وأخرى غنائية هادئة، بمصاحبة إيقاعية دقيقة صارمة، إلى أن تبدأ آلة التشيلو غناء لحن جميل بمرافقة من آلة الكمان، يعود بعدها المؤلف إلى اللحن الصاخب الأول.

يصور المؤلف ببراعة تقنية كبيرة مشهد عاصفة بحرية. فنسمع صوت الرياح القوية وارتطام الامواج العاتية على أحجار الشاطئ النرويجي. لكن هذا المشهد قراءة رمزية عميقة لكارثة إنسان (بير غنت) خسر كل شيء لاتباعه طرقاً ملتوية في حياته.

ينهي غريغ هذا العمل الكبير بأغنية لسولفياج، خطيبة بير غنت، التي تركها وحيدة خلال ترحاله الطويل فتشجو آلة الكمان بلحن منسوج بشكل مرهف فيه الكثير من النفحات اللحنية الشعبية لاسكندنافية. فيتداخل الحنين للأرض بعدم الرضا للعودة متأخراً.. وهكذا يمتزج غناء الكمان المعتق بالأسى بأرضية مخملية لآلات النفخ.

براعة

ويرى النقاد والمتخصصون، أنه من أبرز سمات موسيقى مؤلف العمل، اللحنية الاصيلة ذات الطبيعة القومية المتميزة التي كان لها دور كبير في شهرته، إلى جانب براعة تقنية متفوقة مع شمولية رائعة للانفعالات الإنسانية الروحية، ذلك لإيمانه الحتمي بأن الموسيقى والفنون تنمو من ما هو إنساني خالص.

1843

ولد إدوارد غريغ في يونيو عام 1843 في مدينة بيرغن النرويجية وتوفي فيها أيضاً عام 1907، درس العزف على آلة البيانو والنظريات الموسيقية والتأليف الموسيقى في مدينة لايبزغ الألمانية.

Email