«الحب في زمن الكوليرا».. بوح مستحيل ومشاعر أكثر زخماً

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

نشر غابريل غارسيا ماركيز (1928 ـ 2014) روايته الرائعة »الحب في زمن الكوليرا« سنة 1985 بعد ثلاث سنوات على فوزه بجائزة نوبل في الأدب سنة 1982.

ولد ماركيز في مدينة أراكاتاكا بكولومبيا، وعاش فيها طفولته قبل أن ينتقل إلى بوغوتا العاصمة للدراسة في مدارسها وجامعاتها. وانطلقت شهرة ماركيز بعد نشره لروايته الخالدة »مئة عام من العزلة« سنة 1967 لِما امتازت به من غنى في الإبداع وعُرفت بالواقعية السحرية، واقعية الاضطهاد السياسي والإيمان بالقوى المقدسة اللامحدودة.

ويقدم ماركيز في »الحب في زمن الكوليرا« سرداً عن جوهر العواطف الإنسانية، والبوح المستحيل لعواطف محاصرة، تجد نفسه بعد نصف قرن من الانتظار أمام ذكرى ماضٍ غابر وحب أكثر زخماً.

رسائل المطر

انتظر الشاب فلورينتينو اريثا محبوبته فيرمينا داثا إحدى وخمسين سنة وتسعة شهور وأربعة أيام ليعيد معها حبل الوصال، لم يكن يمر يوم إلا ويحدث شيء يذكره بها.

كان له من العمر اثنتان وعشرون سنة عند القطيعة ويعيش وحيداً مع أمه. كان لأمه تجارة خردوات، وكان هو ابنها الوحيد، أنجبته من لقاء عابر مع صاحب السفن دون بيو، أكبر الأشقاء الثلاثة الذين أسسوا شركة الكاريبي للملاحة النهرية في مجدلينا.

كان فلورينتينو بريئاً حتى تعرف إلى فيرمينا داثا وانتهت براءته، كانت تعيش مع عمتها وأبيها الذين قدموا للعيش هنا هرباً من انتشار مرض الكوليرا، اشتروا لأنفسهم بيت البشارة ورمموه. وكان ذلك مؤشراً على أنهم في بحبوحة من العيش. كانت الابنة فيرمينا تدرس في مدرسة ظهور العذراء المقدسة، وأحبها فلورينتينو منذ رآها وله من العمر ثماني عشرة سنة.

وكان يكبرها بأربع سنوات. كان فلورينتينو يراها هي وعمتها أربع مرات في اليوم في الذهاب والإياب، ويراهما مرة واحدة يوم الأحد عند الخروج من القداس الكبير. رسم لها في مخيلته صورة مثالية. وسرعان ما وجد هذا الحب صداه بتبادل المشاعر، والأحلام. قالت لها عمتها في إشارة لفلورينتينو الذي يجلس في الحديقة ليراهما تمران:

»لا يمكن إلا أن يكون مريضاً بداء الحب.. ولا بد من العيش طويلاً لمعرفة الطبيعة الحقيقية للرجل«. وصدقت العمة قبل أن تكون هي واسطة لنقل رسائله، فضلاً عن أماكن سرية يخبئان فيها رسائلهما التي استمرت لأربع سنوات، ليجداها أحيانا مبللة بماء المطر. كان فلورينتينو يرسل لها أبيات شعر محفورة برأس دبوس على وريقات زهرة كاميليا.

رحلة النسيان

اكتشفت المدرسة فيرمينا متلبسة بكتابة رسالة حب مما أدى إلى طردها، وما إن عرف والد فيرمينا بقصة حب ابنته وبمساعدة عمتها لها حتى ثار وطرد أخته وأجبرها على الإبحار بعيداً، ثم حاول إغراء ابنته بكل أنواع التملـّـق، وحاول إفهامها أن الحب في سنها ما هو إلا سراب، وطلب منها أن تعيد الرسائل وترجع إلى المدرسة لتطلب الصفح جاثية.

وأمام رفض فيرمينا لطلب والدها، أجبرها على رحلة النسيان بعيداً عن هذا المكان، كانت رحلة مجنونة استمرت أحد عشر يوماً برفقة قافلة بغـّـالي الأنديز ثم مكثا بعيداً طويلاً وحين عادا إلى بيتهما كانت فيرمينا مريضة، وشكوا في أنها تعاني من الكوليرا.

حلية اجتماعية

كان على الدكتور خوفينال أوربينو العازب والعائد من باريس أن يعالج فيرمينا. وسرعان ما سقط دون مقاومة أمام مفاتن فيرمينا رغم أنه يكبرها بعشر سنوات.

وسرعان ما تقدم لخطبتها، والدها وجد فرصة مثالية بالدكتور خوفينال.واسى فلورينتينو نفسه بأن حُب فيرمينا الخادع يمكن استبداله بعاطفة دنيوية.

ولكنه في ذات الوقــــت أخذ يدعو الله أن ينزل صاعقة العدالة الإلهية لتصعق فيرمينا حين تهم بقسم يمين الحب والولاء لرجل لا يريدها زوجة له إلا لتكون حلية اجتماعية. ولكنه انتهى ليصبح زير نساء، غير أنه عاهد نفسه على ألا يتخلى عن فيرمينا حتى لو انتظرها العمر كله، مع تصميم موازٍ على أن يبني مستقبله ويكون ثرياً. وكان الانتظار طويلاً.

انتظار أبدي

واستمر الانتظار لأكثر من نصف قرن، وهي فترة طويلة كانت كافية لتغيرات كبيرة في عالم التكنولوجيا، وشهدت حرباً أهلية، تغير فيها وجه الحياة واستمرت حتى موت زوج فيرمينا. وتذكر فلورينتينو حديث أمه قبل وفاتها عن زواج فيرمينا واصفة له بأنه زواج مصلحة وأنه أحط وسيلة.

وخلال هذه السنوات الطويلة استطاع فلورينتينو أن يكسب ثقة عمه ليون ويعترف بابن أخيه ويتدرج في وظائف شركة الملاحة النهرية العائدة له حتى سلمه رئاسة مجلس إدارتها كوريث وحيد. كان فلورينتينو مقتنعاً في عزلة روحه بأنه قد أحب بصمت أكثر بكثير من أي كان في هذا العالم، وجئت لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي.

132 رسالة

لم ييأس فلورينتينو فبدأ بإرسال الرسالة تلو الأخرى، حتى باتت طقساً يومياً، وكان مستعداً لإخضاع صبره لتجربة أكبر، إلى أن يجد دليلاً قاطعاً على أنه يضيع وقته بهذا الأسلوب، حتى بلغت رسائله مئة واثنتين وثلاثين رسالة من دون أن يتلقى أي رد، وانتظر فعلاً دون الإحساس بالقلق الذي كان يسببه له الانتظار في شبابه.. انتظر بعناد شيخ اسمنتي.

فيرمينا بعد أن أحرقت بعض الرسائل، كانت تشعر برواسب إحساس بالذنب، وحين بدأت تتلقى الرسائل مرقمة وجدت ذريعة أخلاقية لرغبتها في وقف إتلافها.

وهكذا وجدا نفسيهما بعد نصف قرن من الانتظار، عجوزين يترصدهما الموت، لا يجمعهما سوى ذكرى ماضٍ غابر لم يعد ملكاً لهما، وإنما لشابين مختفيين. واقتنع فلورينتينو بأن فيرمينا ما زالت على شراستها التي كانت عليها في شبابها، لكنها تعلمت أن تكون شرسة برقة، فها هو يقتحم عليها بيتها من دون موعد، مسبباً لها صدمة، وطالباً منها موعداً ليشربا الشاي معاً.

أما فيرمينا فقد وجدت في أماسي الشاي مع فلورينتينو مسكـّـناً، ولما لم يكن إخفاء مثل هذه الأماسي ممكناً، فقد وجد ابن فيرمينا الدكتور اوربينو ارتياحاً في رفع معنويات أمه بهذه اللقاءات واعتبره تآلفاً صحياً بين عجوزين متوحدين.

جوهر الحب

وجه فلورينتينو دعوة رسمية لفيرمينا لتقوم برحلة استجمام عبر النهر، وخصص لها وحدها قمرة الضيافة الخاصة والمريحة، وبعد انطلاق السفينة عزفت الفرقة الموسيقية مقطوعة شعبية دارجة، واستمرت الفرقة في العزف حتى منتصف الليل، بقى القلبان وحدهما في الشرفة المظلمة يعيشان إيقاع أنفاس السفينة، مدّ فلورينتينو يده الباردة في الظلام وبحث عن اليد الأخرى.

وجدها بانتظاره، لقد كانا يتمتعان في اللحظة السريعة ذاتها بما يكفي من الصحو ليدركا أن أياً من اليدين لم تكن هي اليد التي تخيلاها، وإنما كانتا هرمتين.

ولكي يظلا أطول فترة ممكنة اقترح فلورينتينو بعد أن اجتازا جلجلة الحياة الزوجية الصعبة، ووصلا من دون لف ولا دوران إلى جوهر الحب، اقترح أن يرفعوا على السفينة علم حملها وباء الكوليرا، لتبحر في النهر جيئة وذهاباً، فقد عاشا معاً ما يكفي، ليعرفا أن الحُب هو أن نحب في أي وقت وفي أي مكان، وأن الحُب يكون أكثر زخماً كلما كان أقرب إلى الموت.

فيلم سينمائي

تم اقتباس فيلم من الرواية، حمل نفس عنوانها، من إخراج مايك نويل، وأنتجه سكوت ستايندروف، وقام ببطولته خافيير باردم، جيوفانا ميزوغيورنو، وبنجامين برات. تمتد الفترة الزمنية للفيلم من 1880 وحتى 1930، وتدور أحداثه في مدينة كاريبية على نهر ماغدالينا في كولومبيا إبان زمن الكوليرا.

إضاءة

غابريل غارسيا ماركيز روائي وصحفي وناشر وناشط سياسي كولومبي، قاد ما عرف بالواقعية السحرية، كاتجاه أدبي رائد عالمياً، بدأ في أدب بلدان أميركا اللاتينية، حاز على جائزة نوبل، وله الكثير من الأعمال الأدبية، أشهرها »الحب في زمن الكوليرا« و»مئة عام من العزلة«، توفي 2014.

سرد عن جوهر العواطف الإنسانية لغابريل غارسيا ماركيز

كتبها سنة 1985 بعد 3 سنوات على فوزه بجائزة نوبل في الأدب

الشعر على وريقات زهرة الكاميليا رسائل فلورينتينو إلى محبوبته فيرمينا

Email