رائعة نجيب محفوظ «زقاق المدق»: زاوية الرؤية بين الرواية المقروءة والسينما

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

القاهرة الكبيرة بأهلها وناسها وأحيائها والزمن العابر بهم وبها، كانت على الدوام محور اهتمام الأديب نجيب محفوظ، فعمل على تسجيلها وتوثيقها عبر كمٍّ كبير من الروايات التي اشتهرت شعبياً بعدما مُثّلت في السينما والتلفزيون..

وبعد نيله جائزة نوبل العالمية التي استحقّها بجدارة.. فمَن منّا اليوم لا يذكر شخصيات رواية «زقاق المدق» والمكان الذي احتضن شخصيات فريدة من نوعها تبعاً لذلك الزمن الذي كتبت فيه خلال الأربعينيات من القرن الماضي وإبان الحرب العالمية الثانية، علماً أن هذا الزقاق لا يزال موجوداً بالقرب من الأزهر، ويمكن لقارئ الرواية أن يتخيّل الشخصيات ..

وهي تتنقّل في تلك الأزقة المتفرّعة وفي الساحة القريبة حيث مقهى المعلم «كرشة» الذي استبدَلَ للتوّ الشاعر الشعبي وسارد الحكايات الفقير بالمذياع. فضّل نجيب محفوظ أن يمنح القارئ في الاستهلال، نبذة تاريخية عن هذا الزقاق القديم وعن أهله البسطاء الطيبين المقتنعين بحياتهم على الرغم من سلبيتهم إزاء ما يجري حولهم من أحداث عظام وبوجود الاحتلال الإنجليزي، فضلاً عن ضغط القاهرة الجديدة الذي بات واضحاً من خلال رغبات بعض سكانه في الخروج منه كعالم قديم.

جدارة

وبذلك، يمكننا اعتبار رواية «زقاق المدق» من أهم الروايات التي عالجت صراع الحداثة والقدامة، علماً أنه كان كتب قبلها رواية «خان الخليلي» وهي قريبة إلى حدّ كبير من أجواء روايتنا، إلاّ أنهما ستفترقان من حيث الرؤية والمقصديّة، وبخاصّة رؤيته الثاقبة لمجتمع الزقاق والحال التي سيؤول إليها نتيجة زحف المدينة باتجاه الأحياء الشعبية والتاريخية، وسعي هذه المدينة إلى تفكيك بنية الوعي المجتمعي الساكن، بل إلى العبث بحياته إلى درجة التدمير..

وفي هذا الخضم لا ينتصر محفوظ للزقاق وأهله، فهم على بساطتهم وطيبتهم إلاّ أن الزمن عبر بهم فباتوا أشبه ببضاعة قديمة وكاسدة: عالم التحشيش والبطالة المقنّعة وتشويه الأجساد للحصول على دريهمات قليلة من التسوّل، يصنعها لهم زيطة صانع العاهات المشهور والشخصية الفريدة من نوعها ليس في أدب نجيب محفوظ، فحسب وإنما ربّما في الأدب الروائي العربي.

«حميدة»

أما الشخصية المحورية «حميدة» نموذج الأنوثة المتفجّرة، فنجدها على الدوام تتطلّع للخروج من الزقاق إلى عالم المال الذي سيجلب السعادة، وبتعبير محفوظ: تركّزت عبادتها للقوة في حبّ المال على اعتبار أنه المفتاح السحريّ للدنيا، المسخّر لجميع قواها المدخورة، المال الذي يأتي بالثياب وبكلّ ما تشتهيه الأنفس.

حميدة بدورها شخصية فريدة من نوعها، وليس ثمّة من ينافسها من بنات جنسها بما امتلكته من جرأة تصل إلى حدّ الوقاحة، وتوق للخروج من الزقاق نحو العالم الجديد ولو على حساب القيم والكرامة.

مصير

وإلى ذلك، فقد كان من الممكن أن يكون الشخص الأمثل للزواج منها حسين كرشة ابن المعلّم كرشة صاحب المقهى، الشاب المتمرّد على والده وعلى حياة الزقاق، وهو بدوره تملأه الرغبة في أن يعيش حياته مرفّهاً في القاهرة ويتطلّع في الوقت نفسه للسفر والتجنّس بأوروبا، لولا أن نجيب محفوظ وضع في طريقهما مسألة الأخوة في الرضاعة، فباتا مثل أخّين يفهم كلّ منهما الآخر، باعتبارهما شخصيتين لا تريان في الزقاق سوى التخلّف والعجز، بينما وقف على النقيض منهما الحلاّق عباس الحلو.

بصمة

وبلا شكّ، يترك الفيلم السينمائي( زقاق المدق ) أو "حميدة" لحسن الإمام وسيناريو سعد الدين وهبة، بصمته العاطفية في ذات المشاهد، تماماً كما ترك محفوظ بصمته في ذات قارئه بما اجترحه من تقنيات روائية أسست الفضاء الروائي لعالم قديم شبه مغلق ومحكوم بعاداته وتقاليده وبالرضا عن الذات. وتمكّن الفيلم من التعبير عن هذا الفضاء عبر جملة من المشهديات البصرية..

وما رافقها من أداء حركي وموسيقى ورقص وغناء بصوت الفنانة شادية أو حميدة التي أحرقت مراكبها مع الزقاق وأهله، بمن فيهم عباس الحلو (صلاح قابيل)، خطيبها الذي اضطر أن يعمل في المعسكر الانجليزي كي يوفّر لها ثمن الشبكة..

غير أن الشيطان سيجلب لحميدة الشاب فرج إبراهيم، وقام بدوره الفنان (يوسف شعبان) الذي اكتشف للتوّ مقدار توقها للخروج من الزقاق فأغواها بمزيد من الوعود، وتمكّن أخيراً من جلبها إلى عالمه، عالم الكباريه وما يستتبعه من سلوك تجاه زبائن في غالبيتهم من جنود الاحتلال الإنجليزي ومن بعض الأثرياء الفاسدين.

و(فرج) هو نموذج لأبناء الأزقة الذين أصابوا حظاً في الانتقال إلى مجتمع المدينة، ولكن عن طريق (القوادة).

المعلم «كرشة»

وقدّم نجيب محفوظ شخصيات إضافية لا تقل أدوارها عن زيطة (توفيق الدقن) أو حميدة (شادية)، وفي مقدّمتهم المعلّم كرشة صاحب المقهى. ومثّل دوره الفنان (محمد رضا). وإلى جانبه الشيخ درويش (حسين رياض) الذي أدّى دوراً خطيراً عن المعلّم المصروف من الخدمة. وكذلك شخصية العم كامل صانع البسبوسة (عبد الوارث عسر) و صبي القهوة سنقر (عبد المنعم ابراهيم).

خاتمة بتصرف

يبقى أن نشير في الختام إلى أنّ المخرج، أو ربّما كاتب السيناريو قد تصرّف في خاتمة الرواية، فبدلاً من أن يُقتل عباس الحلو على يد الإنجليز، تُقتل حميدة بطلقة طائشة لينقلها الشابان حسين كرشة وعباس الحلو إلى الزقاق في مشهد بالغ التأثير، وربّما انسجاماً مع النظرة الأخلاقية حول فلسفة الخطيئة والعقاب، أو للتأثير في المشاهد الذي أعجب بنموذج عباس الحلو السلوكي والأخلاقي، لكنّ الإشارة تستوجب القول إنّ اختلاف النهاية على هذا النحو يخالف وجهة نظر محفوظ الفكرية ورؤيته لصراع القدامة والحداثة، وفي انتصار للحداثة حتّى ولو كان الثمن غالياً.

Email