«طرطوف».. المسرح معرّياً النفاق

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

 إذا قدم شكسبير شخصيات خالدة في تاريخ المسرح التراجيدي العالمي، فإن موليير قدم الشخصيات الخالدة في تاريخ المسرح الكوميدي العالمي. واذا سار هاملت في مقدمة الشخصيات بتردد وخجل ثم سكن أيقونة، فطرطوف تقدم الشخصيات الكوميدية بجرأة ووقاحة، ولم يسكن منذ ولادته عام1664 وحتى الآن. إنه حي في كل زمان ومكان، إنه رجل الدين الذي يستخدم الدين ستارا ليقوم بأعمال ينهي عنها الدين.

دورين

تبدأ المسرحية بالخادمة الجميلة والذكية دورين وهي تجرب قبعة جديدة في أوضاع مختلفة أمام المرآة. تضع القبعة وتقول: هكذا؟ لا! هكذا يصبح وجهي طويلا مثل وجه الحصان. هكذا؟ لا! إنه يجعل وجهي مدورا مثل وجه ابن عرس. إن سيدي أورغون عديم الذوق. فرض علي هذا الفستان الذي يجعلني أبدو مثل البرميل..

والآن يريدني أن ألبس هذه القبعة! تكز على أسنانها وتقول: إنه طرطوف! يالها من مهزلة! تخلصنا من طغيان الملوك ووقعنا في قبضة رجال الدولة والكنيسة. اذا كان رب العائلة سعيدا بهذه المهزلة، لماذا ترهقين نفسك وأنت خادمة!؟ لكن رب العائلة لا يملك نصف عقل الخادمة، وطرطوف يخدعه بأساليب ماكرة! هل أسكت عن هذا؟

المشكلة والشخصيات الرئيسية

بهذا المونولوج القصير تطرح دورين المشكلة وتقدم لنا طرطوف، رجل الدين الذي يؤثر على اورغون بأساليب غير قويمة ويهيمن على عقله وقراره، وأورغون المؤمن الساذج الذي يعتقد أنه يتقرب من الله عز وجل، بتقربه من رجال الكنيسة، لذلك يستضيف طرطوف التقي، وهو يعتقد أن البركة تحل بالمنزل، ثم نتعرف على أمه التي تشبهه، السيدة بيرنيل، وقد قررت مغادرة المنزل لأن أهله لا يعاملون طرطوف..

كما يجب، وهو في نظرها معقل الأخلاق. بعدها يظهر كليانت المنطقي والهادىء، أخ المير الجميلة زوجة أورغون الثانية، ويتفق مع دورين على تخليص أورغون من سيطرة طرطوف عليه. ثم يأتي داميس، ابن أورغون المندفع، متكدرا لأن والده، بإيحاء من طرطوف، علّق زواج أخته ماريان من خطيبها فالير.

يدخل أورغون ويرجوه كليانت أن يفكر بسلوك طرطوف وتدخله الوقح في شوؤن العائلة، لكن أورغون لا يعطيه أذنا صاغية. يسأله كليانت عن سبب تأجيل زواج ماريان، فيراوغ ويتفادى الجواب.

الجواب

تتأزم الأمور حين يصرح أورغون بأنه سيزوج ماريان الى طرطوف. وبعد احداث ومماحكات كثيرة، تلجأ دورين الى المير التي تستطيع وحدها أن تؤثر على طرطوف المفتون بها. ترجوه المير أن يمتنع عن الزواج من ماريان، فيرواغ ويلمّح الى أن ذلك ممكن اذا استسلمت له، ثم يقترب منها أكثر، فتصده وتهدده بكشف حقيقته إذا لم يترك ماريان لحبيبها فالير.

.ويتظاهر طرطوف بالمسكنة ويقول بصوت بريء: إذا كان هذا ما يريده السيد داميس، ليكن.. سامحه الله. يتأثر أورغون بكلام طرطوف ويطلب من ابنه الاعتذار، فيرفض ويطرده من المنزل.

الفخ

يحاول كليانت عبثاً، أن ينزع قناع التقوى عن وجه طرطوف، وتتوسل ماريان والدها أن يسمح لها بالزواج من فالير. واذ يفشل الجميع، تقنع المير زوجها بالتريث لكشف الحقيقة، تطلب منه أن يختبىء في غرفة النوم ويسترق السمع، ثم تستدعي طرطوف وتقوده الى غرفة النوم.

وهناك تعترف بأنها تميل إليه، لكنها تخاف أن يكشف أحد أمرهما. لا يصدق طرطوف مايسمع ويطلب منها الدليل. توافق المير وتطلب منه أن يستكشف الرواق ليتأكد أن زوجها في مكان بعيد. يخرج طرطوف ويعود، فيجد أورغون يرغي ويزبد ثم يشتمه ويطرده من المنزل. يخرج طرطوف وهو يقول إن لديه صكا بملكية المنزل والخزانة الحديدية.

الخزانة الحديدية

يخاف أورغون ويخبر كليانت أن طرطوف يستطيع أن يرسله الى السجن لأن الخزانة الحديدية تحتوي بالإضافة الى السندات المهمة، على أوراق صديق له خان الملك. واذ يحاول كليانت تهدئته، يأتي رسول من المحكمة حاملا إنذارا بإخلاء المنزل. يرتبك الجميع ويصيبهم الذعر حين يصل فالير ويخبرهم أن طرطوف أخذ الخزانة الحديدية الى الملك...

والأخير أصدر أمرا بتوقيف أورغون. يحاول أورغون الهرب، فيوقفه ضابط بوليس الملك الذي يدخل ومعه طرطوف. يشمت طرطوف بأورغون والمير ويمرح صاخبا ومرددا أن المنزل ملكه. ولدهشة الجميع، يعتقل ضابط البوليس طرطوف ثم يخبر العائلة أن الملك الحكيم اكتشف ألاعيبه.

موليير وطرطوف

عُرضت مسرحية طرطوف في مهرجان قصر فرساي في مايو 1664، ولاقت ترحيبا شعبيا كبيرا قابله احتجاج ساخط كبير من قبل رجال الكنيسة والمرتبطين معهم بالمصالح، وقاد هذا الاحتجاج رئيس أساقفة باريس، بول فيليب، الذي كان مقرّبا من الملك.

ومع أن الملك شاهد العرض الأول لهذه المسرحية وصفق لها وضحك، وكان راعيا ومشجعا لموليير وفرقته المسرحية، أصدر في اليوم الثاني أمرا بمنع عرضها وطبعها. وعقب هذا الحظر صدر مرسوم من رئيس الأساقفة يهدد بالحرمان الكنسي لكل من يقرأ أو يشاهد أو يشارك في تمثيل هذه المسرحية. وهكذا ضاع النص الأصلي لهذه المسرحية التي تتألف من ثلاثة فصول.

سعى موليير الى ملاطفة واسترضاء الأساقفة، وصرح أن هدفه انتقاد من يدعي التقوى ويمتطيها للوصول الى أهداف غير شريفة. ثم أعاد كتابة نص هذه المسرحية، وخفّف من حدة النقد لرجال الدين وغيّر اسمها الى «المحتال» واسم بطلها الى بانلوف، لكنهم لم يلينوا. وعندما عُرضت في مسرح القصر الملكي في أغسطس 1667، منعوا العرض الثاني لها وحظروا نشرها،..

فضاع هذا النص الذي يتألف من خمسة فصول. وخلال هذا الصراع، استمر دعم الملك لموليير، ولولاه لجرى تكفيره وحكم الأساقفة عليه بالنفي أو الإعدام. ومع ازدياد النقمة وارتفاع الأصوات المطالبة بالحد من تدخل رجال الكنيسة في شؤؤن العامة، لزم الأساقفة الصمت وعُرض النص الثالث للمسرحية، المتداول الآن، بنجاح كبير في القصر الملكي في فبراير 1669.

«طرطوف» الحالي

بعد الدوران حول العالم والانتقال من مسرح الى مسرح، ثم من المسرح الى السينما والأوبرا والموسيقى والإذاعة والتلفزيون. أصبح طرطوف رمزا عالميا يُضرب به المثل للدلالة على المنافق في الدين.

ويرد النقاد شهرته العالمية الى أن كل قرية ومدينة في كل أنحاء العالم، تعاني من طرطوف أو طراطيف خاصة بها. وهذا ما أدى الى تفاعل الشعوب معها وتحميلها بمشاكلها المحلية أو نفثات لافحة لا تجرؤ على إطلاقها مباشرة.

وخير ما نذكر مثالا على ذلك هو توظيف طرطوف الآن في الوطن العربي لمكافحة الإرهاب والتطرف الديني الأعمى. في العراق وسوريا ولبنان انتشر اللقب «الشيخ طرطوف» عند الكلام عن قادة الإرهاب.

وفي مصر استخدمت المسرحية لمواجهة الإرهاب باسم الدين ونبذ التطرف الديني. وأعدها وأخرجها الفنان محمد مكي لتناسب الأجواء المصرية واستخدم اللغة العامية لتصبح أكثر قربا من المواطن. وبدأ عرضها في مسرح بيرم التونسي في الاسكندرية في ابريل 2014، وفي مسرح ميامي في القاهرة في أغسطس 2014.

Email