دانتي و«رسالة الغفران» وحدة فكرية وطرقات متباينة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يرى الدكتور ثروت عكاشة في (الملهاة الإلهيّة) التي كتبها الإيطالي دانتي أليغييري باللغة الإيطاليّة بداية القرن الرابع عشر، محاولة جريئة ورائدة في المجال الفكري والأدبي، وأعظم كتب العصور الوسطى في امتدادها وتأثيرها واتساع مداها، ذلك لأنها جمعت بين الفلسفة المدرسيّة لمفكري عصر العصور الوسطى وأفكار الفرنسيسكان..

وثقافة اليونان والرومان القديمة، بحيث التقت فوق صفحاتها أسماء أرسطو وفيرجيل وأوفيد وشيشرون مع أسماء بيثيوس وتوما الأكويني وفرنسيس الأسيزي، الأمر الذي جعلها مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنيّة التشكيليّة والموسيقيّة والسينمائيّة والمسرحيّة، ومؤخراً تحولت إلى ألعاب حاسوبيّة. ويجمع نقاد ومتخصصون، على أن (ملهاة) دانتي و(رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، سلكتا طرقات متباينة، ولكنها جميعا تؤدي إلى التفكير الحر.

فكر فلورنسا

ولد دانتي عام 1265 وتوفي عام 1321 وهو كاتب وشاعر إيطالي عكست كتاباته الحراك الأدبي والديني والفلسفي في إيطاليا منتصف القرن الثالث عشر. اقترن اسمه برائعته الشعريّة (الكوميديا) أو (الملهاة) الإلهيّة . وتعود أهمية الملهاة إلى أنها أظهرت فكر أبناء فلورنسا (أكثر المدن الإيطالية أهميةً وأكثرها نفوذاً على الصعيد الديني آنذاك).

كما تميزت بأسلوبها السلس البسيط. غابت الملهاة عن الاهتمام ما يزيد عن ثلاثة قرون، ومع بداية القرن التاسع عشر، تصدرت الاهتمام في أوروبا التي كانت تعيش يومها مناخاً من الحرية والرومانسية، وتُرجمت إلى العديد من اللغات العالميّة، من بينها العربيّة.

يرى الشاعر والكاتب الفرنسي المعروف (فكتور هوغو)، أن دانتي من العقول الخصبة، وستبقى ذكراه خالدة في الفكر الأدبي، لأنه وضع الإله الخالق في جوهر كتاباته، والكون على هامشها.

عمل شعري

ملهاة دانتي (كما يقول ثروت عكاشة)، ليست عملاً واقعياً، رغم ما تمثله من رموز رياضيّة، ونزعات فلسفيّة مدرسيّة، ومواد علميّة كقوانين حركة الأجرام، وأفكار دينيّة ودنيويّة، وجدل فلسفي، ومعانٍ مجازيّة، كتمثيل فيرجيل للعقل، وبياتريس للإلهام، بل إن الملهاة في المرتبة الأولى عمل شعري خرج فيه دانتي على عادة الكتابة باللغة اللاتينيّة، التي كانت مقصورة على عدد محدد من المتفقهين فيها، وهي لغة مغايرة للغة التي كان عامة الناس يتحدثون بها.

تناول دانتي في الملهاة الإلهيّة العديد من الموضوعات، وخلط بينها إلى حد الاضطراب واللبس، فجمع بين الحديث عن السياسة وعن الفردوس، وأفاض في الثرثرة الفجة إفاضته في الحديث العلمي، ووضع الجحيم إلى جانب الفردوس، والإيمان إلى جانب العقل، وأحداث الماضي مع أحداث الحاضر..

وضم الوثنيّة إلى المسيحيّة، وعالم الإغريق والرومان إلى جانب العصور الوسطى، غير ان اللغة الشعريّة التي كتب بها الملهاة، تميزت بموسيقى خاصة، وبنظرة إلى الوجود شاملة، ونفاذ إلى الأعماق، وثراء الأخيلة والصور الشعريّة.

يرى الدكتور ثروت عكاشة أن البعض أساء الحكم على ملهاة دانتي، خاصة الذين اكتفوا بقراءة القسم الأول منها، والذي يتحدث عن الجحيم، إذ لم يكن هدف دانتي التعبير عن نظرة العصور الوسطى إلى العالم الآخر، بل كان هدفه إلقاء الضوء على تطور حياتنا الدنيويّة منذ بدئها ..

وما تبعها من تطور حتى تمثل الخير بالفردوس. وهذه الملهاة بشكل عام، رحلة فكريّة طويلة مترعة بالانفعالات والمشاعر التي لم تعرفها شعوب العصور الوسطى. بدأ دانتي تصوير هذه الرحلة بتصوير أعماق الأرض، صاعداً عبر طبقات الجحيم، ومن ثم متوجها إلى الجبل المطهر.

ثم مضى صاعداً إلى الطبقات الميتافيزيقيّة السماويّة، وهذه الرحلة كما يراها دانتي هي رحلة الحضارة الإنسانيّة التي شقت طريقها عبر وثنيّة الإغريق خلال العصور الوسطى التي تنازعتها سلطتا الكنيسة المطلقة من جانب، والدولة الرومانيّة المقدسة، من جانب آخر. أمضى دانتي ما يزيد عن خمسة عشر عاماً في كتابة الملهاة التي أضيف إليها صفة (الإلهيّة) العام 1555، عند صدور طبعة البندقيّة..

وهي مكونة من 14229 بيتاً موزعة على ثلاثة أجزاء. الأول يحمل عنوان (جهنم). والثاني (المطهر). والثالث (الفردوس). وتمثل: الإدانة والجزاء والنعيم. يتألف كل جزء فيها من ثلاث وثلاثين قصيدة، بعدد متساوٍ من الأبيات، مضيفاً أنشودة في المقدمة ليصل الرقم إلى مئة (رمز الكمال).

بطل الملهاة هو دانتي نفسه، الرجل التائه عند مفترق الطرق، وسط غابة مظلمة، تفيض بالذنوب. هذا العالم الذي نسجته مخيلته، يضم الخير إلى جانب الشر الذي يراه نتيجة للعجرفة المفرطة في سلوك أول تمرد على حكمة الرب، ويرى دانتي أن مصدر الشر هو الإنسان ذاته: (إذا كان العالم الحالي منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب في أنفسكم). ويتصور دانتي موقع (جهنم) بعيداً عن الإله الذي يشع نوراً.

ويتصور المطهر جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة. وترمز إلى فردوس الإيمان على الأرض. والحقيقة الإلهية في نظر دانتي واحدة، وإن اختلفت الديانات، وهذه حقيقة أعلنها الأنبياء، وكان يؤمن بوجود إله واحد أبدي يُحرّك ولا يتحرك، وبأن الحقيقة هذه موجودة في الكتب السماويّة، ويمكن لأي إنسان أن يكتشفها إن أعمل عقله.

بين قامتين

تتقاطع غالبية الأفكار الواردة في (الملهاة الإلهيّة) لدانتي، مع (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري. بل ذهب المستشرق والباحث الإسباني القس ميغيل اسين بلاثيوس: في رسالة الدكتوراه التي ناقشها تحت عنوان (علم الآخرة الإسلامي في الملهاة الإلهيّة) إلى أبعاد كثيرة .. وأثارت الرسالة تساؤلات حول مدى اطلاع دانتي على مؤلفات محيي الدين بن عربي ورؤية المعري في (رسالة الغفران).

ذكر دانتي في الملهاة (ابن سينا) و(ابن رشد) إلى جانب (سقراط) و(أفلاطون) وغيرهم من كبار المفكرين، في إطار تلاقي الفكر الشرقي والغربي في البحث عن الحقيقة. هذا التلاقي الذي أكد غالبية الباحثين وجوده بجلاء، في (ملهاة دانتي) بشكل مــــــباشر وغير مباشر، وبالتحديد تأثره البين بما ورد في كتاب أبي العلاء المعري (رسالة الغفران) التي ظهرت إلى الوجود، قبل ظهور الملهاة بحوالي أربعة قرون.

أبو العلاء المعري شاعر ومفكر وفيلسوف وناقد عاش في العصر العباسي. ولد في (معرة النعمان) في سوريا عام 974 وتوفي العام 1058. لديه العديد من المؤلفات أبرزها (رسالة الغفران)، وهي رحلة خياليّة ممتعة في العالم الآخر، يطوف بها أبو العلاء بصاحبه الشاعر ابن القارح بين أرجاء العالم الآخر..

حيث ذاقا معاً ألواناً بهيجة من السعادة والنعم، وكان المعري قد افتقدها في الحياة الدنيا، نتيجة فقده بصره، واعتزاله الناس والحياة العامة. فجنة أبي العلاء هي جنة السجين المكبوت والمحروم والضرير، رغم أن مجالسه حفلت بالأدباء والنقاد والمفكرين والشعراء.

«الجنة والنار»

بنيت «رسالة الغفران» على ثلاثة محاور رئيسة: الحياة الآخرة (الجنة والنار)، الحديث عن الزندقة، المسائل اللغويّة والأدبيّة. وبمقارنتها مع (الملهاة الإلهيّة)، لدانتي نجد وجود قواسم مشتركة كثيرة بينهما، لكن الأمر لا يصل إلى حد التماثل. ففي حين وُصِفت رسالة الغفران بفنون الملحمة أو المقامات أو القصص (وهي في الحقيقة أقرب إلى فن الرسائل)، نجد أن الملهاة الإلهية هي بناء شعري بحت مصاغ من مائة نشيد.

وفي حين يصطحب المعري صديقه الشاعر ابن القارح في رحلته إلى العالم الآخر، يقوم دانتي باصطحاب الشاعر فرجيل معه في هذه الرحلة التي استغرقت سبعة أيام. أما صورة الآخرة لدى المعري، فهي إسلاميّة تحتوي على الجنة والنار، ولدى دانتي مسيحيّة تتوزع إلى ثلاثة أقسام هي: الجحيم، المطهر، الفردوس.

وفي القسم الأول، يرمز إلى الخطيئة والعذاب والشباب. وفي الثانية.. إلى التوبة والتطهر. وفي الثالثة.. إلى الكهولة والطهارة والحرية والخلاص والنور الإلهي. وفي حين تطغى على رحلة المعري وصاحبه في العالم الآخر، السعادة والمتعة والنعيم، كحالة تعويض عما عاناه في دنياه (وهو كما قيل رهين المحبسين: العمى والبيت). نجد رحلة دانتي وصاحبه، تنتهي بالسعادة الإلهيّة..

وذلك تعويضا عن معاناته من السياسة والسياسيين في عصره الذي أبدع في رسم الشخصيات فيه كالأمراء، والفقراء، والشياطين، والملائكة. كما أبدع في رسم الطبيعة. وفي الحقيقة، أبدع المعري ودانتي في رسم صورة الواقع في عصرهما، الأمر الذي جعل من كتابيهما، مرآة صادقة لهذا الواقع، بكل أحداثه وأطيافه وتلاوينه وإرهاصاته.

كفة راجحة

ترى دراسات متخصصة، أن هناك وحدة فكرية تجمع بين المعري ودانتي، ولكن لقاءهما للتفكير الحر والخيال الخصب، والمعاناة متعددة الأسباب والدوافع، لا يمنع تفرقهما وتمايزهما في عدة نواحٍ، منها: أن المعري كان مفكراً ناقداً وقادراً على رؤية الماضي والحاضر واستشفاف المستقبل. بينما كان دانتي صوفي النزعة ومدرسيا ولا ينتمي لعالم الفكر، بل إلى عالم التصوف المدرسي، وهو نتاج بيئة لاهوتيّة، وناطق بلسانها.

كتب ومقارنات

شغلت المقاربة بين عوالم المعري في (رسالة الغفران) وعوالم دانتي في (الملهاة الإلهيّة)، العديد من الكتاب والباحثين والنقاد في الشرق والغرب، ولا تزال حتى اليوم، موضع دراسة وتحليل ومقارنة. بعض هذه الأبحاث أخذ طريقه إلى دفتي كتاب كما عند الباحث الإسباني (ميغيل اسين بلاثيوس)، الذي وضع كتاباً بعنوان (علم الآخرة الإسلامي في الملهاة الإلهيّة)، وعند الباحث المصري عبد القادر محمود الذي وضع كتاباً بعنوان (رحلة إلى الدار الآخرة مع المعري ودانتي).

علّامة مُبرّز

كان أبو العلاء المعري، علامة فكريّة بارزة في عصره وبنتاجه الشعري والفكري الذي تُرجم إلى العديد من لغات العالم. من أهم وأبرز هذا النتاج (رسالة الغفران) التي حوت رحلة ممتعة وبهيجة في العالم الآخر، ومسائل وقضايا أدبيّة وفكريّة تطال وتضم: اللغة والشعر والعروض والموسيقى والصرف والنحو والرواية.

إذ نصّب المعري نفسه قاضياً وزّع رضاه على عدد من الشعراء والأدباء، ونقمته على عدد آخر. . وحزن على غفلة الناس وحمقهم، الأمر الذي دفع البعض لاتهامه بالزندقة، متجاهلين أنه رسم صورة معبرة وحقيقية.

Email