اتجهت الكاتبة الإماراتية لولوة المنصوري من الارتقاء والخيال في عالم الرواية، إلى السرد البحثي الذي انساب على مهل، كاشفاً في تفاصيله عن دقة المعلومات التي احتواها كتابها الذي صدر أخيراً بعنوان «تنوير الماء ـ رحلة إصغاء لتيار الخيال الإنساني في الإمارات»، عن هذا قالت المنصوري في حديثها لـ«بيان الكتب»: «البحث تحوّل وتقويض دائم يُسفر عن تشكلات جديدة، قوة الفكرة والهاجس المندفع منها، يرسمان الطريقة ويحددان الأبعاد الكتابية».

كما كشفت عن الأسباب التي جعلتها تتناول الماء في كتابها، وذلك من خلال الحوار التالي:

ما الذي جعلك تتجهين من كتابة الرواية إلى البحث؟

كلاهما سعي لفهم الأشياء والعالم، وملء للفراغات الفكرية والحلمية، الرواية فضاء ارتقائي صعودي بالتصورات المفترضة من الأطياف والأشكال، نطوّع فيه العالم بخيالاتنا ومكرنا السردي، أما السرد البحثي فهو غوص يتحرى الدّقة أكثر، ويؤثث دربه بالحذر والشك والاحتمالات والإيمان بعدم وجود شيء قاطع، فكل ما نجمعه ونستعرضه ونضيف إليه ليس إلا في حقيقته محض فرضيات، وهنا تكمن متعة المبحوث عنه، إنه قابل للتجدد والتداول والنقاش والعرض. فارتحلتُ إلى الماء الذي صار هاجسي، مرة عبر رؤيا تنبئية لأحوال الماء في المستقبل، فكتبتُ «قوس الرمل» ملهاة المهد والماء، ثم عدتُ لأروي رحلة الماء الأول الحر والمتحرر بالإمارات عبر عمل بيوغرافي أقرب للتأمل والتداعي الروحي بالمسيرة التاريخية والجيولوجية للماء.

وحي الماء

لماذا اخترت الماء موضوعاً لكتابك؟

موضوع الماء يعيد خلق نفسه بداخلي منذ كنتُ صبيّة لاهية في الأودية والبرك وأحواض المزارع المخضرّة من الطحالب، الماء زمنه مفتوح على كل الأزمنة، يتأسس على التجديل الروحي والمادي، هو سائل أموميّ مركب من الشّعر والسّرد، من الذاكرة والبحث، ومن صيرورة قائمة على التحوّل، ينتمي لسلالة كونية غامضة ومتناقضة في الخاصيات، ينبع من مصدر مجهول المكان وشفّاف المعالم، فالحديث عن الماء كثيف وعظيم ولا يقف عند حدود الراهن والذاكرة، إنما بالكشف عن بنيته الأبدية عبر موقف فكري.

لقد شغلني موضوعه لسنوات، وعندما بدأت الكتابة في الملاحق الثقافية تبلورت الفكرة وتجسدت عبر صفحات تحكي الشكل الرّوحي للماء، ومدى تجاوب الإنسانية معها، بدءاً من الإمارات وإنسانها القديم الذي نقش وشكّل الحضارات الأولى من وحي الماء.

جاءت طريقتك بتناول موضوع الماء بأسلوب روائي شيق، فما أهمية ذلك في جذب القارئ للكتاب؟

هذا الكتاب هو في الأصل تحرر من الجمود الذي قد ننزلق فيه أثناء الاشتغال البحثي، الماء حر وتنويري، إذا سكن واستكان للجوامد والحدود مات، والكتابة عن الماء لا بد أن تأخذ تياراً يشبهه، لذا كتابي هو بيوغرافيا الماء، يعتمد على سرد المكان وتحولاته في ماء الزمن، ومن البديهي أن تأخذ الكتابة شكل الحكاية، خالقة انسجامها بمستوى البحث والنظر والهاجس.

صور إرشادية

احتوى الكتاب على عدد من الصور، فمن أين حصلت عليها، وما أهمية وجودها؟

تعزز الصور مضمون الكتاب البحثي، وتضفي طابعاً من المصداقية على التقصي. ومعظم صور الكتاب بعدستي التي تنقلت بها بمياه الحجر والصحراء والنخيل، وبعض الصور الرسمية في موضوع سيرة ماء أبوظبي وصور والدنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والتي كان مصدرها الأرشيف الوطني، و3 صور زودتنا بها الباحثة الإماراتية رحاب الظنحاني، وتحتوي بعض النقوش التي تم العثور عليها بين أودية وجبال الإمارات.

لماذا لم تقسمي الكتاب إلى أبواب كما يجري عادة؟

لم أفعل ذلك لقناعتي بأن المحتوى لا يحتمل التقسيم الشكلي، أردت أن يكون للكتاب داخلياً شكل الماء، فتعمدت ترك الماء منساباً دون أبواب، موحّداً بين كل تلك العناصر الطبيعية والجغرافية والإنسانية والسيرة.

بيئة الإمارات

ما الإضافة التي تتوقعين أن يقدمها هذا الإصدار الذي يتعلق ببيئة الإمارات؟

لا يزال الكتاب في بدايات وجوده، يحاول جسّ النبض، أتمنى أن يرقى لمستوى ذائقة القارئ الذي يعنيني وأفكّر به، القارئ المسافر مع تيار الخيال والابتكار والفن الإنساني، إن داخل أرض الإمارات وبين مرتفعاتها الكثير من الكنوز والأحافير والدّهاليز الطبيعية والفنون البشرية المطمورة منذ آلاف السنين، والتي خلّدها لنا الإماراتي القديم. لا يكفي أن نقرأ التاريخ وحده بمعزل عن الطبيعة المؤثرة في تشكّله، لقد أثر الماء في تكوين البشر، وأثر البشر في تفاصيل الماء وكثافته وعذوبته، فالماء كائن حي يؤثر ويتأثّر.

هل من جديد تعملين عليه؟

يمثل الكتاب بداية لكتابات بيوغرافية أخرى أكثر اتساعاً وشمولاً، وتشغلني حالياً سيرة الأمكنة وبدايات البشر عليها وحولها، ومحاولة اجتذابها في سرديات تفتش عن روح السارد الأول بالمكان المحرّك الجيولوجي القديم.. كما أستجيب هذه الأيام لنداء القصة، أحاول العودة إليها بحنين أموميّ عجيب.. بعيداً عن أصوات الزحام في الرواية.