تزامن صدور رواية الكاتب والروائي والأكاديمي الأسترالي بيتر كاري الأخيرة «بعيداً جداً عن البيت»- منشورات دار «فيبر أند فيبر» 2017، مع حالة من الدهشة، أثارتها سنوات من صمته الطويل عن التحدث عن تاريخ بلاده. غير أن الرواية الجديدة على الرغم من ذلك، تقدم بحثاً على جانب من الأهمية في تاريخ وثقافة أستراليا.
فكاري مثلما هو معروف عنه أنه أهم كتابها الأحياء، وقد حصل على جائزة «مان بوكر» الأدبية مرتين، الأولى عن رواية «أوسكار و لوسيندا» سنة 1988 والثانية في عام 2000 عن رواية «التاريخ الحقيقي لعصابة نيد كيللي» التي تعتبر من روائع هذا الكاتب، كما صدرت له أعمال مهمة منها «جاك ماغز» 1997 و«فقد الذاكرة» 2014 إلى جانب ثلاث مجموعات قصصية وثلاث كتب في أدب الرحلات.
فيما يلي نص الحوار الذي أجراه معه ستيفن رومي، المحرر الثقافي في صحيفة «الأسترالي»:
على الرغم مما يبدو أنه اقتلاع سكان أستراليا الأصليين من مكانهم وقيام آخرين بإعادة كتابة تاريخهم، لا شك أن روايتك «بعيداً جداً عن البيت»، مرهفة وخارجة على المألوف يقوم بتأليفها كاتب حاز على جائزة «مان بوكر» مرتين. فلماذا لم تكتبها قبل هذا اليوم؟ وعن ماذا تتحدث الرواية؟
في ظاهرها، كما يبدو من غلافها، تلقي الرواية الضوء على الزمن الذي احتفى بطواف السيارات حول القارة الأسترالية، وكان معروفاً باسم «ذا ريديكس تريل»، سيارات عادية من النوع الذي كان يستخدمه الناس في الذهاب إلى أعمالهم، ولكن كلما احتدمت المنافسة، وتطورت الأحداث أحالنا ذلك وأحال شخصيات الرواية إلى مواجهة صعبة مع تاريخ مظلم.
الآن، أنا لا أريد أن أحرق القصة، ولكن من المهم أن يلقى الضوء على شخصية المواطن الأسترالي الأصلي. هنالك مذبحة، وهيكل عظمي لطفل يستخرج وتستخدمه إحدى المتسابقات كزينة في سيارتها كونها كانت تعتقد أنه كنز أثري ثمين وهناك آخرون يتجاهلونه لكي يسلم في النهاية إلى شرطي يصنفه كالتالي «هيكل طفل من «الأبورجنال».
يستأنف كاري: لكن بينما يتبع المتسابقون ومرافقوهم خارطة معينة تكون هناك خرائط أخرى غيرها موجودة منذ الأزل، هذه كانت مرسومة بأقلام الرصاص أو مصنوعة من الخشب والأسلاك.
وأعترف بأنني شاهدتها في بلدة «كوامبي دونز»، إن ثقافة «الأبورجنال» برمتها قد بقيت حبيسة هناك في تلك البلدات البعيدة، كما تلخصها عبارة إحدى الشخصيات التي أدركت أن تلك البلدة كانت بشكل أو بآخر «سجن»، مكان لا يمكن أن يحتفى فيه بثقافة هؤلاء المبتهجين وقيمهم، وطقوسهم الدينية التي يرددونها في أغنياتهم. لقد أصبحوا محرومين من المعنى الحقيقي للحياة.
لدينا الكثير لنقوله
لماذا، وفي هذا الوقت المتأخر، تكشف عن هذه التفاصيل؟
يذكر كاري هذه الحادثة: أنه ذات يوم كان يشارك في مؤتمر للكتاب في كانبيرا - منتصف ثمانينيات القرن المنصرم وكان يصغي إلى خطاب ألقاه الكاتب والممثل والناشط غاري فولي، أحد الكتاب من السكان الأصليين، الأبورجنال، فذكر فيه أنه يدرك جيداً أن الكتاب الآخرين يريدون مساعدتهم ولكنه عبر عن ذلك بقوله: (إنني أطالبكم بأن تكفوا عن الكتابة عنا، إنني ممنون لكم ولكن لدينا نحن الكثير لكي نقوله).
ويضيف: أتصور أنه أمر جيد، فبعدها حاولت أن أشير إلى الأسس التي يقوم عليها تاريخهم وكان فولي في ذاكرتي على الدوام، كنت مؤمناً بما يقول وما زلت. إنه لا يمكنك أن تكون كاتباً أسترالياً ولا تكتب عن هذا التاريخ العظيم.
ولهذا فأنا أكتب الآن عن هذه الجزئية المظلمة من تاريخنا، إنه تاريخهم وتاريخنا على حد سواء. لقد أمضيت وقتاً طويلاً في التفكير في كيفية إخراج مثل هذا العمل فكانت هذه الرواية، وأتصور أن عدداً كبيراً من المعنيين بالأمر قد قرأوها. إنني أحب أن أحتفي وأضيء بكتاباتي تاريخ بلادي وثقافتها.
إلى أي مدى يمثل هذا العمل سيرة ذاتية؟
ربما لعبت روايتي هذه على أكثر من مستوى، ومن ذلك: الحياة العائلية لبطليها «بوبس وآيرين» وكانا يطمحان إلى مشروع لبيع السيارات، وأثناء ذلك اكتشفت آيرين أنها حامل فقررا القيام برحلة طويلة حول أستراليا وهكذا تبدأ الأحداث.
لم أقتبس
المفارقة بأن بيتر كاري ولد في أستراليا لأبوين يعملان في تجارة السيارات. فكيف تفسر ذلك؟
الواقع أنني لا أعرف الكثير عن هذا، أمي وأبي يشبهان بطلي العمل ولكني لم ألجأ إلى الاقتباس من سيرتهما الذاتية.
لماذا ترفض أن يقال إن الرواية تجسد مشهد الحب لحقبة معينة من تاريخ استراليا؟
يقول ويلي في أحد الفصول في الرواية: «لقد انقشعت الغمامة عن عيني»، أما أنا فأقول لو كان لأستراليا ماضٍ فهو هذا. وفي فترة لاحقة يقول ويلي أيضا: «لو كان ذلك هو قلب الحقيقة بالنسبة لبلادنا، فأنا لا أرى في ذلك سوى وحشية حقيقية».
لكن السؤال الحتمي هو: هل سيعود كاري إلى بلاده؟
أجيبك بنعم ولا، أنا أتكلم عن نفسي وعما يهمني، عن البلد الذي ولدت فيه والبلد الذي أقيم فيه منذ خمسين سنة. إنني أحب ولديّ، أحبهما كثيراً ولا أفكر في أن أتركهما وحيدين في أميركا وأعود إلى استراليا.
أنت تقيم في نيويورك مع زوجتك الإنجليزية «فرانسيس كودي» التي عملت سابقاً في مجال النشر، وهي الآن وكيلتك الأدبية التي تهدي إليها هذا العمل؟
أتصور أن أعمالي تجسيد حقيقي لما يهوى قلبي وتهوى مخيلتي، ولكن وجودي الفعلي تحدده أمور أخرى لا يمكنني السيطرة عليها.
«بعيداً جداً عن البيت».. وطن خلقته ثقافات متعددة
ربما قدم الروائي بيتر كاري بروايته الأخيرة «بعيداً جداً عن البيت» الاعتذار المتأخر لثقافته الأصلية، بالاعتراف الصريح بأن وطناً مثل استراليا خلقته ثقافات متعددة وليس ثقافة واحدة انتمى لها طوال حياته.
فبعدما هجرها قرابة 30 سنة، ظل مقيماً خلالها في نيويورك، ها هو يعود لأستراليا محتفياً بذاكرتها التاريخية والثقافية في رواية جديدة، قال النقاد إنها ربما كانت أهم أعماله، رغم أن شيئاً لا يبدو غريباً في شخصياته التي تحسبها هي نفسها التي جسدتها رواية «التاريخ الحقيقي لعصابة نيد كيللي». لكن هذا الاعتذار قد لا يحتوي على نوع من الحنين لأستراليا، والواقع أنه فقط للتأكيد على أن ثمة ما يمكن تداركه من جانب من يعتقد أنه البطل الحقيقي في مكان ما.
ملحمة أدبية
رواية كاري عمل أدبي ملحمي ثري، في ظاهره يتناول حقبة من تاريخ أستراليا هي الخمسينيات، كان لها ارتباط خاص بحياته الشخصية بمرحلة الطفولة، حين كان الناس مهووسين بسباقات السيارات الفارهة. وفي هذه الأثناء يلقي الضوء على قصة حياة بطل الرواية «ويلي باتشهوبر» الذي يتحدر من عائلة أسترالية أصلية ولكنه يتربى في كنف عائلة بيضاء ليصبح أسترالياً أبيض ناقماً على تاريخه المزعوم، باحثاً عن ثقافته المطموسة.
أكثر اتساعاً
وفي معرض دفاعه عن موقفه من كتابة التاريخ الحديث لأستراليا وإيمانه بأن هناك تاريخاً حقيقياً أكثر اتساعاً في رقعته، يرد كاري بأنه طالما أراد أن تأتي الحقيقة قوية على لسان كتاب أستراليين من أصول «أبورجنالية»، ولما أحس بذلك شعر بأن من واجبه تصحيح المغالطات التي ترد حول التاريخ الذي مر بمرحلة شابها العنف بالتعاطي مع ثقافات أخرى ظلمت، وارتكب في حقها أسوأ ما يمكن تصوره بما فيها الإبادة الجماعية.
يذكر كاري هذه الحادثة عندما كان يشارك بمؤتمر للكتاب في «كانبيرا» منتصف الثمانينيات وكان يصغي إلى خطاب ألقاه الكاتب والممثل والناشط، غاري فولي، أحد الكتاب من السكان الأصليين، الأبورجنال، فذكر فيه أنه يدرك جيداً أن الكتاب الآخرين يريدون مساعدتهم وعبر عن ذلك بقوله: «إنني أطالبكم بأن تكفوا عن الكتابة عنا، إنني ممنون لكم ولكن لدينا نحن الكثير لكي نقوله».
أكبر سباق
تقع أحداث الرواية بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم أن بطليها «آيرين» و«ويلي»، يظهران مفترقين كل يتحدث نيابة عن نفسه، إلا أن علاقة قوية تربط الاثنين المتواصلين عبر سور الحديقة الفاصل بينهما، وهي علاقة يستهجنها الآخرون.
والواقع أن حياتهما تسير مضطربة، فبينما تعيش آيرين حياة المرأة البيضاء المتزوجة من رجل أبيض يتمحور طموحه بالاستحواذ على جائزة أكبر سباق حول القارة الأسترالية، يظل ويلي مساعداً لهما إلى اللحظة التي يقرر فيها سؤال نفسه: من أنا في هذا الصخب؟
الصخور والخيال
«على الرغم من أنني طبيب ولست أنثروبولوجياً، إلا أنني تمكنت من طرح عدد من الأسئلة، يكفي للتأكد من أن تلك الصخور الاستثنائية كانت تلعب دوراً رئيساً في نسج قصص خيالية، ومنها قصص الانمساخ على سبيل المثال، بمعنى أن ما يبدو لك صخراً هو في أحيان أخرى غير ذلك.
سألت أبي ما إن كانت تلك الصخرة الكبيرة هي حقيقة.. في الواقع، لا أهمية لصخرة إن لم تكن وراءها حكاية ما، قانون أو طقس ما؟ من أجل ذلك أتصور أن أبي كان قد جمع تلك الوصفة السرية التي ظلت مكدسة على الأرفف في كهفه».