جورج سوندرز الفائز بجائزة مان بوكر:جمال الأدب يكمن في إبرازه اختلاف هوياتنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن مستغرباً أن يعمد الكاتب الأميركي جورج سوندرز، الفائز بجائزة «مان بوكر» لعام 2017 عن روايته الأولى «لينكولن في الباردو»، لإقناع نفسه من البداية، أن ما يريد تأليفه ليس كتاباً شاملاً عن الرئيس الأميركي الراحل إبراهام لينكولن، حسب قوله، بل مجرد توفير لمحات قصيرة عنه عند اللزوم، وفي لحظات محددة..

ويقول سوندرز، في أحد حواراته، أخيرا، إنه لم يقصد الكتابة عن لينكولن لو لم تأسره قصة رثائه لابنه، لكن القصة هذه المرة، احتاجت للتحول إلى رواية كاملة، فمضت في التفتح.

ويعد سوندرز من أبرز الأسماء في مجال القصة القصيرة في الولايات المتحدة، ويمتاز أسلوبه بتضخيم تعقيدات الثقافة الأميركية بأسلوب سريالي خيالي، هو أقرب إلى مدرسة غوغول الواقعية في الأدب الروسي، الذي يعتبر نفسه من أتباعها، «لا سيما في طريقة فهم الحياة، ومعرفة أنه قد يضطر إلى أن يتأرجح بعنف قليلاً».

وكانت قد ألهمته لكتابة الرواية، حكاية سمعها للمرة الأولى، عن ابراهام لينكولن، بينما كان في واشنطن مع زوجته منذ حوالي عشرين عاماً، فافتتن بها.

ويحكي ساوندرز لمجلة «تايم» الأميركية بعد صدور روايته، عن ذلك، مبينا أن لينكولن المثكول عشية الحرب الأهلية بوفاة ابنه ويلي وهو بعمر الـ 11 عاماً، زار السرداب، حيث يرقد جثمانه في مقبرة اوك هيل بجورج تاون. فخطرت له فكرة، لكنه تركها تختمر في ذهنه طيلة عقدين، قبل أن يقرر تطويرها.

جولة

وتركز الرواية على ليلة 22 فبراير 1862، وتصطحب القارئ في جولة في «الباردو»، وهو مصطلح يرتبط بالديانة البوذية في التيبت، وهي مرحلة انتقالية ما بين الحياة والانبعاث بحسب المعتقدات البوذية في التيبت، بمرافقة عدد من الأصوات ترفض إتمام الرحلة إلى النهاية..

وهذه الأشباح التي تحوم فوق جثمان الطفل تراقب الوالد في حزنه وتسرد القصة كجوقة في تمثيلها لمعنى الأبوة والموت، وتحاول مساعدة الطفل على الرحيل النهائي.

محاور

ويقول سوندرز بشأن العمل ومضامينه، حاولت أن أغرس الشعور نفسه الذي أحس به كل تلك السنوات، وأن الكتابة عن لينكولن أصبحت مع الوقت شيئاً ملحاً، نوعاً من عبء علي، فأردت توفير تلك اللحظات المعينة في تلك الليلة الظلماء. ويتابع: شألت نفسي «كيف يمكن أن تكون الحالة الذهنية لرجل عند الساعة 12:45 صباحاً في ليلة باردة من شهر فبراير، بعد دقائق من مشاهدته جثمان نجله؟».

إن مثل هذا الموضوع حسب قوله، بدا أنه يناسبنه أكثر ككاتب قصص. وكان أحد طلابه قد أعرب عن اعتقاده أنه إذا ما كتب يوماً رواية، فإنها ستكون عبارة عن سلسلة مناجاة، لكنه أثناء تأليف السرد، حاول تجنب بعض المزالق. ويوضح في الشأن، أنه لم يكن يرغب في كتابة مناجاة للينكولن من 300 صفحة.

ووجد نفسه يقاوم نهج السرد المباشر، فاعتمد بعض الفكاهة، ثم جاءت اللحظة التي أدرك فيها أنه إذا أحدث نوعاً من التناغم بين دور الأشباح والوقائع التاريخية، سيصبح قادراً على التحرك بينهما دون إحداث الكثير من الجلبة.

أما أكثر ما فاجأه في حياة لينكولن، فهو النمو الهائل الذي حققته تلك الشخصية في السنوات الخمس على الصعيد الروحي والأخلاقي، وأنه لم يكن يتمتع بشعبية في السنوات المبكرة من رئاسته، وكيف تمكن من أن يتقدم في وجه الصعوبات.

وفي تقييمه للينكولن، يقول الكاتب: شخص قوي حقاً مثل لينكولن، يمكن أن يكون هادئا جدا لفترة طويلة، وتُوجه اليه الكثير من الإهانات، وتلاحقه الكثير من الأفكار السياسية، وينعت بتسميات من قبل العديد، ويتصدى لذلك بإعمال العقل بهدوء، الى أن يخرج بجواب، وهذه برأيي قوة غير عادية.

وبالنسبة لأسلوبه الذي يدمج الخيال بالقصص الواقعية، فيشير سوندرز إلى أنها محاولة منه لاستخدام تلك العناصر كوسيلة لشحذ العواطف. وأنه عندما ينظر الى حياته وما كانت عليه، يجد مجرد تمثيل ما حدث معه حرفياً، يمنح كمية أقل من التغيير الفعلي الذي اختبره.

بعبارات أخرى، تمثيل «واقعي» مباشر للحياة، برأيه، يترك الكثير من الأشياء كالاضطرابات والتعقيدات العاطفية والجماليات والمخاوف التي يجري اختبارها حتى في حياة برجوازية نسبيا كحياته، خارج التداول.

ورواية سوندرز قائمة بالكامل على الحوار، مع اقتباسات من روايات تاريخية متشابكة مع الخيال. بالنسبة له، أسلوبه يقصد جذب القارئ عاطفياً للحكاية التي يريد أن يخبرنا بها، ويقول: «أحاول دوماً التركيز على المركز العاطفي للقصة، ثم القيام بما يتطلب لنقل هذه القوة العاطفية للقارئ، هذا هو الشكل الصحيح. لا أريد أبداً أن أكون تجريبياً من أجل التجربة».

وسوندرز، المهندس الجيوفيزيائي، لم تكن لديه خلفية أدبية تقليدية، وكان عليه أن يمضي في «منحنى تعليمي طويل».

كما أن تجاربه، مثل اهتماماته بالعلوم ووجهات نظره السياسية ومعتقداته البوذية، تجد طريقها الى أعماله. وذلك الآن أكثر من أي وقت مضى، حيث يرى الحاجة لثقافة تكون وسيلة للناس في أن يكونوا متعاطفين مع بعضهم بعضاً، لا سيما في ظل انفجار وسائل التواصل الاجتماعي الفورية.

ويكمن جمال الأدب برأي ساوندرز، في تداعي الفوارق بين الهويات، ويقول «الأمر الأساسي الذي يحدث عندما تكتب هو أنك «تتهاوى لمدة دقيقة واحدة فقط»، بأمل أن يشعر القارئ بالشيء نفسه. هذه هي الفرضية الكاملة للأدب، باننا مختلفون لكننا رغم ذلك، بإمكاننا أن نصل بأنفسنا إلى الحالة نفسها. وهذا ما يتيح لنا الكتابة متقمصين صوتاً آخر وعن شخصيات أخرى.. من عصور أخرى.

توازن مطلوب

وهو في عمر الـ 58 عاماً، يعتقد الكاتب، أن الجيل المقبل متحرر من التحيزات الموروثة. ومن المهم بالنسبة له في ظل الاستقطاب الحالي، إيجاد التوازن في الطريقة التي نرى فيها العالم، ويقول: أعتقد أن الموقف الأكثر تعقيداً هو في رؤية الحياة: جميلة ورهيبة بكل ما فيها. أما المثالي، فهو أن تكون منفتحاً على الواقع. فالحياة نفسها تبقى جميلة جدا برغم اتصافها بالجنون.

«لينكولن في باردو».. حياة مثيرة وسط الآلام

يحكي جورج سوندرز في روايته الأولى «لينكولن في باردو»، قصة زيارة لينكولن المثكول، تحت جناح الليل، في ليلة 20 فبراير من العام 1862، قبر ابنه ويلي الذي وافته المنية جراء حمى التفوئيد. إذ كان الفتى يصارع الحمى فيما العائلة تقيم استقبالاً رسمياً فخماً عشية الحرب الأهلية الأميركية.

محاولة استكشاف

تدور أحداث الحبكة خلال ليلة واحدة، بين شواهد القبور البيضاء الرخامية، ويحاول الكاتب خلالها، تبين خيوط استكشاف مثير للموت والحزن والمعنى الأعمق للحياة، ذاك عبر سرد يمزج بين الفكاهة والحزن. ونجد في الرواية، الرجل الهزيل، طويل القامة لينكولن، وهو جالس فوق جثمان نجله، ابن الـ 11 ربيعا، ينتحب، ذلك فيما تهيم الأرواح المعذبة من حوله متوعدة..

إذ تباشر سرد قصة لينكولن وتخبرنا عن أحلامها وخيباتها، ونعلم ان لينكولن محاصر في باردو، وهو مصطلح يمثل مرحلة بين الموت والانبعاث في الديانة البوذية في التيبت، لكن هذه الرحلة في روايته تبدو رحلة عذاب أليم أشبه بــ «الكوميديا الإلهية» لدانتي.

فنجل لينكولن، كالأطفال الآخرين، من المفترض أن يعبر الى الآخرة، لكنه يحاول البقاء بسبب حزن والده، لكن الأطفال الذين لا ينتقلون ينتظرهم عذاب اليم، وتحاول الأرواح، انقاذ ويلي، ابن لينكولكن، من هذا المصير المشؤوم، ومعظم ما يدور في الرواية يتعلق بمحاولاتها في التأثير بلينكولن للتخلي عن ولده.

زخم عاطفي

وتمنح الأصوات المتعددة لتلك الأرواح التي تظهر بتشوهات تمثل أوجه القصور الأخلاقية التي تبقيها في عالم الأحياء، زخماً عاطفياً للقصة، بتحويل حزن لينكولن الشخصي الى تأمل في الخسائر التي تكبدتها البلاد خلال الحرب الأهلية.

لذا تبدو لحظات من الفكاهة السوداء في الرواية ملجومة لصالح التقاط ملامح الحزن، سواء احزان الحياة اليومية كما تختبرها ارواح الموتى، أو حزن ويلي فيما يطويه النسيان، أو لينكولن غير المتصالح بعد مع وفاة ولده، والدمار الذي أحدثته الحرب الأهلية. ويمنح رثاء الوالد لابنه المثقل أصلا بشؤون الدولة، عمقا لمقاطع كثيرة في الكتاب.

وتبدو في الرواية محاولة لنقل صورة عن المجتمع الأميركي، إذ تبرز بين الأرواح شخصيات عدة، من بينها الجندي والسارق والكاتب وصائد الدببة والعالم وأم لثلاث بنات وضحية اغتصاب.. ورجل مسن كان على وشك الزواج بفتاة شابة، وبين سيل أصواتها، نعثر على اقتباسات عن حياة لينكولن.

لكن الرواية، على تعدد شخصياتها، تأخذ زخمها من شخصية لينكولن المثقلة بالأحزان والأعباء، في وصف عميق كامل للطبيعة الإنسانية. وقد رسمها المؤلف بجمالية في لحظة مفصلية، داخل الباردو الخاص بها. ويكتب ساوندرز عن لينكولن، والذي يعرف عنه أنه عانى من الاكتئاب:

«كان عقله ميالاً نحو الحزن، تجاه واقع بأن العالم مليء بالأحزان، وان الجميع يكافح تحت أعباء مثقلة بالحزن، ومهما كان الطريق الذي يسلكه الإنسان، عليه محاولة نسيان أن الجميع يعاني وأن يسعى للقيام بما يمكن عليه لتخفيف العبء عن أولئك الذين على اتصال معه».

اقتباسات تاريخية

سيل الاقتباسات التاريخية التي يلجأ إليها سوندرز في مقابل سيل أصوات الأشباح، يمنح القصة أجواء قوطية من عهد فيكتوريا مع احساس من الرعب، لكن الأرواح محاصرة في مساحة تبدو غير واقعية، وهي غير قادرة على القبول بواقع الموت.

وإذا كانت أوجه القوة في أسلوب سوندرز، يصوغها مزج اعماله بمشاعر من الرحمة والعطف، حتى في أكثر الأوضاع وحشية، فإن احتلال الأرواح المساحة نفسها يزيل الحدود وتبرز من خلال ذلك مشاعر التعاطف حيالها.

وفي وصفها لرواية سوندرز، قالت البارونة لولا يونغ:«عمل أصيل تماماً في شكله وأسلوبه، فبينما مخزنه في التاريخ، فإنه يستكشف «معنى التعاطف والتجربة».

1958

ولد الكاتب الأميركي جورج سوندرز في الثاني من ديسمبر 1958، وهو أستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة سيراكيوز، وكاتب قصص قصيرة ومقالات وكتب أطفال. وقد فاز بجائزة المجلة الوطنية في مجال القصة في أعوام: 1994، 1996، 2000، 2004، ونال جائزة أو. هنري عام 1997. إضافة إلى باقة متنوعة من الجوائز الأخرى.

Email