في حوار يحتفي بصدور روايته «ورطة آدم» مع بلوغه الستين

علي أبو الريش: أكتب لأفتح فضاءً في الذات

ت + ت - الحجم الطبيعي

السمت المحايد وسيماء الفيلسوف مع تلك النظرة المرهقة والمتسائلة وذلك النحول العظيم، من ذلك كله تتألف شخصية الكاتب الإماراتي علي أبو الريش، وها هو يدخل هذا العام بالذات، متئداً وحذراً، الى رحاب عقده السابع، يقدم قدماً ويؤخر أخرى، ولكنه بكل ثقة ممكنة يتأبط رواية جديدة تستل نصل الضوء ضد ظلام المكيدة الدامس والعنف الآيديولوجي، من خلال فتح ثقب في الوعي المثقل بعبء الماضي.

أبو الريش الذي نحاوره باقتضاب هنا، يعد عمدة روائيي الإمارات، فهو من شق طريقه منذ السبعينيات من القرن الماضي، يداً بيد مع الإمارات، صادراً عن بلدة معيريض الوادعة والمودعة لبراءتها العتيدة في مهب الحداثة والثقافات المحدقة.

وإذ ينطلق بقوة من معيريض رأس الخيمة ويتشبث بها على طول خط تجربته، فلأنها كما كتب يوماً: هنا تمرّ سفن، وأخرى تعبئ الأحشاء بالوهم لكن الشاطئ لم يزل يزخر برائحة العرق ودهن الأجساد المنقوعة بالتعب. هنا النورس لا يباغت السمكات بالألم.

لا ينثر خوفه في أفئدة المحار. الأشياء هكذا تبدو واهنة تتداعى كأنها الأحلام المطلقة من قيد مكبوت، هكذا تمارس المحارة المعزولة عادتها المخضبة بلذة التصور، وتقذف بشهد الحياة عند السواحل المضطربة.. معيريض من أول الوجد حتى آخر الوجود، كنتِ الفيلسوف الذي ضل طريق الفلسفة.

هذا الفيلسوف الذي يتنكر اليوم لهذه الصفة، يجيبنا كلما سألناه:

مسؤولية القارئ

ما الجديد الذي تضيفه روايتك «ورطة آدم» على صعيد تجربتك من جانب، وعلى صعيد تجربة الكتابة السردية الإماراتية من جانب آخر؟

أراد رجل أكاديمي من جامعة طوكيو أن يتعلم التأمل، فذهب إلى حكيم بوذي، وفي منزل الحكيم جلس الأكاديمي وبدأ الحكيم سكب الشاي للضيف وهنا لاحظ الأكاديمي أن الحكيم ظل يسكب ويسكب حتى فاضت الكأس، فصاح الأكاديمي لقد فاضت الكأس..

فاضت الكأس، نظر إليه الحكيم وقال أنا لا أملأ الجزء الملآن وإنما أملأ الجزء الفارغ فأنت جئت إليّ حاملاً معك الرواسب التاريخية فكيف تستطيع أن تتعلم التأمل؟ يجب أن تفرغ رأسك من الأسئلة والإجابات الجاهزة، وبعدها تستطيع أن

تتعلم التأمل.

ثم قال الحكيم مقولته المشهورة (إذا كان العقل مستبداً فالصحوة مستحيلة) هذا ما تفعله الرواية، فهي لا تطرح أفكاراً لأن الأفكار من شأن الفلسفة، إنما الرواية تشير إلى الأفكار، والروائي لا يأخذك الى القمر، وإنما يشير إليه، وعلى القارئ أن يأخذ زمام المبادرة ويغادر الى مناطق القمر.

في كتابة الرواية لا أعتني كثيراً بالأفكار بقدر ما أحاول صناعة ثقب في الداخل من أجل وضع الفراغ في الروح. نحن بحاجة إلى حفر مكان للفراغ في الداخل، كي نحظى بالعذوبة كما يفعل المزارع عندما يحفر التربة لإخراج الماء العذب. لو تحدثنا عن الأفكار فهي كثيرة بكثرة البشر.

الفلاسفة والكهنة والمفكرون والسياسيون جميعهم طرحوا أفكاراً ولا يزال العالم كما تراه. فالأفكار هي منبع الشقاء لأنها آتية من العقل والعقل كائن مخاتل ومحتال. فالعقل البشري زيف أشياء كثيرة وكساها بالأقنعة، ودور الرواية الإشارة إلى تلك الأقنعة كي نزيحها لنكون نحن وليس غيرنا.

إلى أي حد يصح الزعم بأنك لست أول من كتب رواية في الإمارات، ولكنك وحدك رائد الرواية هنا؟ هل يعود هذا الزعم لمقتضى مفهوم الريادة بوصفها تشمل استيفاء خصائص معينة لتجربة ذات رؤية فلسفية، تجربة تلقي ظلالاً على محيطها وتحقق ذاتها كمشروع راكز ومستمر بملامح محددة نضجت بفعل التراكم والتطوير؟

لو سألت سمكة: كيف يبدو البحر؟ ستقول البحر هنا، البحر هناك. هكذا هي الرواية بحر بالنسبة للروائي، لا يستطيع أن يحدد شواطئها، مع العلم أن كل إنسان هو روائي، كل إنسان يحمل حكايته معه، فقد يعبر عنها وقد لا يعبر، لذلك لا أستطيع أن أدعي الريادة، لأن قبلي مليارات من البشر، كانت لديهم حكاياتهم ورواياتهم، وقصة آدم وحواء تكفي لأن تكون الرائدة.

أما عن الأسبقية في الرواية الإماراتية فهذا لا يعنيني، بل كل الذي يعنيني هو أن أعيش الرواية كما هي حاجتي إلى التنفس ولا أستطيع أن أكون غير ذلك.

أمصال ثقافية

على ذكر أهمية وضوح الرؤية الفلسفية للكاتب.. ما هي ملامح رؤيتك الفلسفية التي تتبناها في إسهاماتك الروائية؟

أعشق الفلسفة لكني لست فيلسوفاً. أنا أرى ما لا يستطع غيري أن يراه، فأكتب متخلصاً لأكون جزءاً من هذا الوجود. أنا أتحد مع الكون عندما أكتب، وأتداخل مع الماوراء عندما أدخل الغرفة الواسعة، التي بداخلي.

في الحكاية القديمة يروى أن عصفوراً أحط على شجرة كان يسكنها غراب، فقال العصفور للغُراب، الطقس اليوم حار جداً والشمس ساطعة. فاستغرب الغراب وقال يا غبي أين الشمس؟

أنا لا أراها، والجو لا يبدو حاراً أبداً. وتجادلا، ثم اتفقا على أخذ رأي أطراف محايدة. فذهبا إلى شجرة مجاورة حيث يوجد مجموعة من الغربان العمياء هناك. عندما طرحا عليها الأمر قالت الغربان العمياء، لا توجد شمس أصلاً، ونحن لم نرها أبداً.

لمسنا في روايتك الأخيرة محاولة تفسير ظاهرة التطرف الديني على نحو تحليلي نفسي. وكأنما هم جميعاً مجرد مرضى نفسانيين يمكن أن نعذرهم لأن الظروف هي التي أجبرتهم وصاغتهم ووضعتهم في هذا الطريق؟

قلت إن الروائي لا يأتي بالقمر وإنما يشير إليه بالبنان. ورطة آدم دخلت في مضمون الحكاية بعيداً عن الأفكار، بعيداً عن التصنيف، بعيداً عن التحريف والتجديف والتجريف. قلت إن الإرهاب لم يأتِ عبر الأطباق الطائرة. الفكر الإرهابي جزء من ثقافة البشرية عبر العصور والأزمان. هتلر كان إرهابياً وكذلك جنكيز خان والاسكندر الأكبر ونتانياهو.

هناك مفصل مهم يجب أن نلتفت إليه أنه عندما نشير إلى الثقافة فهذا ليس اتهاماً وإنما إشارة إلى الثقافة الإنسانية التي أنجزت أعظم الحضارات وقدمت أهم الفلاسفة هي أيضاً حملت معها بذرتها العدوانية التي سقى جذورها نفس العقل صاحب الإنجازات وحامل الأفكار.

نحن لا ندعو إلى تغيير العقل بل نود أن نحول العقل من منطقة العدوانية إلى منطقة الحب. التربة العقلية خربت بفعل التقادم وبحاجة إلى تجديد وإلى نقل الأشجار من مكان إلى مكان آخر كي تأتي بثمار أجود.

إذا نظرت إلى المنطقة العربية التي شابها (الخريف) ستجد أن الكل يقتل الكل، لماذا؟ لأن الهدف هو الأنا، هذه الأنا التي تورمت وأصبحت قيحاً تحتاج إلى أمصال ثقافية تزيح عنها الغبار وتعيد إليها الوعي المغدور.

مواءمة واجبة

هذه الرواية تلامس أيضاً التحولات الاجتماعية التي حدثت في الإمارات من سبعينيات القرن الـ20 وإلى اليوم... هل للنقلة الاقتصادية وزر تتحمله إزاء ظواهر سلبية رصدتها، مثل: المخدرات والتفكك الأسري والآثار السوسيوسايكولوجية الناجمة عن شروط المجتمع الاستهلاكي الجديد؟

عندما يهطل المطر يأتيك الوادي بالماء العذب، ومع الماء هناك الطمي والأعشاب الشوكية والحشرات والنفايات. فهل نسد الوادي ونستغني عن الماء أم ننقي الماء؟ قال طاليس الإغريقي (الأشياء جميعاً جاءت مع الماء فلننقِ الماء).

إذاً فلننظف الأفكار ونجعل من التطور قفزة من الحفرة إلى خارجها وليس حبواً داخل الحفرة. في الإمارات حدث التطور بصورة مذهلة وصادمة وخلال أربعة عقود من الزمن، حققت الإمارات ما لم تحققه دول أخرى خلال قرون.

هذه الوثبة المدهشة تحتاج من الإنسان أن يخلق المواءمة والانسجام ما بين الذات والمعطى الحضاري حتى لا تفلت الجياد من مرابضها وينفك الزمام. المسألة متعلقة بالعقل وقدرته على الإمساك باللحظة وعدم التيه في الأفكار وهذا الانسجام لا يحدث إلا بتدخل الوعي وصحوة الروح. ولا تصحو الروح إلا بوقفات التأمل الحقيقية التي هي المكابح التي تحزم أمر اليقظة المطلوبة لأي تطور يحدث في أي بلد.

«حكيم الرواية» الإماراتية يعالج قضية الإرهاب بروح معيريض

ليس العنف التربوي، ولا التطرف الآيديولوجي وحدهما غاية ما تنبري له رواية علي ابو الريش الجديدة «ورطة آدم» التي صدرت أخيراً عن دار مداد للنشر في دبي.

ولكن العمل التاريخي يرصد، فوق ذلك، تداعيات التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي طالت ثنايا المجتمع الإماراتي منذ بواكير نشوء دولة الاتحاد، وحتى يوم الناس هذا، ولذلك كان لا بد من أن تتحقق للمكان بطولة توازي غلواء الزمان وصروفه.

ما هي ورطة آدم؟

ورطة آدم تتمثل في وقوعه فريسة بأيدي تنظيمات الإرهاب السرية، الأمر الذي يشي بأن المؤلف إنما استقى جانباً مهماً من الرواية من أضابير المحاكم التي مثلت أمامها خلايا الإخوان وفي هذا إشارة إلى النزعة الوثائقية في الرواية.

ولكن، ربما أن ورطته انما هي في الحقيقة سلسلة من الورطات المتنقلة بين الرمضاء والجمر ووخز الضمير، فهكذا هو بدءاً من مولده مبكراً «ابن سبعة شهور» الأمر الذي أجج شكوك ابيه الغائب حينها في الكويت، ثم مواجهته للعنف الأبوي والتقريع الذي لا حدود له، والفشل الدراسي، واضطراره لتفريغ شحنات الكبت والألم في قطط بريئة بقي يجهز عليها ويمزقها إرباً أينما وجدها، علها تشفي غليله.

ومن تجليات الورطة أيضاً تلك القسوة التي ورثها شقيقه ناصر عن أبيه، جراء التمييز التربوي لصالحه على حساب أخيه، ما جعله يتعالى ويشعر بالبعد والجفاء تجاه آدم الضحية المعاق نفسياً.

التكنيك

بأدوات التحليل النفسي ومزج الأسطورة بالواقع رصدت الرواية مشاعر العزلة الاجتماعية تارة، ومشاعر الانتماء والإخلاص للقيم الوطنية، تارة وحتى عواطف الخضوع لقائد الجماعة المقدس من جانب أتباعه المستلبين إزاءه.

لقد وظف أبو الريش تكنيكات الفلاش باك والاستباق والمونولوج الداخلي والديالوج المباشر بجانب الوصف والتحليل لبناء النص الروائي، فجاء مترعاً ومطولاً بما يليق برواية تزخر بالتحولات الدرامية في بنية المجتمع، وذلك من خلال فحص دقيق من جانب كاتب يتسم بالمسؤولية الفنية، جنباً إلى جنب مع المسؤولية الأخلاقية الوطنية.

رواية «ورطة آدم» عمل واقعي مميز، وبناء سردي محكم، تتخلله بعض الهنات، ولكنه في المجمل نتاج بلا جرعات فرح كافية يتوق إليها القارئ وهو يتقلب في المواجع على مدى 384 صفحة من القطع الوسط.

 

Email