ألكسندر لاتسا: إعلام الغرب وممارسته الثقافية يشوهان صورة روسيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

بمناسبة صدور كتاب «ربيع روسي، نحو تجديد روسيا» قدِمَ مؤلفه الكسندر لاتسا، الكاتب الفرنسي المقيم في روسيا منذ سنوات عدة، إلى باريس. وقد طرحنا عليه بعض الأسئلة التي تتعلق بما قدّمه فيه من أفكار حول الرؤية «السلبية» السائدة في أوروبا وفي الغرب عموماً، عن روسيا.

الصورة القاتمة التي يتم رسمها لروسيا في أوروبا والغرب عموماً، هل هي نتيجة سوء فهم.. أم أنها نتيجة لوزن التاريخ؟

أعتقد أن الأمر يتعلّق قبل كل شيء بسوء فهم عميق. وأرى أن نقطة التحوّل الرئيسية الأقرب عهداً تعود إلى فترة ما بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق في سياق ذلك. لقد حاولت روسيا عندها الاقتراب من أوروبا خاصّة ومن الغرب عموماً.

وكانت تفجيرات 2001 في نيويورك وواشنطن بمثابة امتحان حقيقي لمنظور العلاقات بين روسيا وأوروبا والعالم الغربي بشكل عام. وبدا بوضوح بعد تلك التفجيرات أن للولايات المتحدة الأميركية مشروعها الخاص بالنسبة لأوروبا والذي لا يمرّ عبر تقارب القارّة القديمة مع روسيا..وبرزت إرادتها في تأكيد هيمنتها في عالم أحادي القطب بعد انهيار القوّة العظمى التي مثّلها الاتحاد السوفييتي السابق.

تتحدث في كتابك عن الثورات اللونية، البرتقالية وغيرها، في الجوار الروسي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق. هل كان الأمر يتعلّق بنوع من التعبير عن إرادة غربية، وخاصّة أميركية، رمت إلى محاصرة روسيا.. أم أن الشعوب المعنيّة مارست حقّها في الحرّية وفي تقرير مصيرها؟

الأمران معاً. إن تلك الثورات قامت، حصرياً، في منطقة النفوذ الروسي ــ السوفييتي. وتم تقديمها في الغرب عموماً على أنها مجرّد تعبير من الشعوب المعنية عن رغبتها في الديمقراطية والحريّة. وما عنى بمضمونه رغبة الابتعاد عن روسيا والتقارب مع ذلك الغرب وقيمه في الحرية والديمقراطية. وفي الواقع كان من السمات الرئيسية لتلك الثورات أنها كانت بعيدة عن العنف.

لكن، لا شك في أن وسائل الإعلام لعبت دوراً في تلك الثورات وفي نشر أصدائها وأن الآلاف الذين نزلوا إلى الشوارع في البلدان المعنيّة كان يتم توجيههم من بعيد من قبل مجموعات قليلة فاعلة. وكانت تلك المجموعات تلقى المساعدة والعون والتوجيه من الغرب، وغالباً تحت غطاء منظمات غير حكومية وفي بعض الحالات كانت علاقاتها مع الغرب مباشرة.

صورة سلبية ودور خفي

تكرس في هذا الكتاب فصل كامل لما تسميه «دور وسائل الإعلام الغربية» في رسم صورة سوداء لروسيا. وتذكر العديد من الأمثلة المأخوذة من عناوين كبريات الصحف والدوريات وغيرها من وسائل الإعلام. ما حقيقة هذا الدور كما ترى؟

لا شك في أن وسائل الإعلام الغربية تلعب دوراً حقيقياً في رسم صورة سلبية لروسيا في العالم. ولكنها لا تنجح في تعميم ذلك في العديد من المناطق، ليس أقلّها أهمية بلدان أميركا اللاتينية عموماً. ومن الهام أن نعرف أن هناك ثلاث مجموعات إعلامية غربية كبرى في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، تساهم في رسم ملامح صورة روسيا لدى الرأي العام الغربي والعالمي. ذلك أنها ترى في روسيا النموذج ــ الموديل ــ الآخر الذي يتناقض مع الرؤية الاستراتيجية الغربية التي ترسمها الولايات المتحدة الأميركية للعالم.

انعكاسات مستقبلية

ما الهموم الحقيقية للروسي العادي اليوم. وما مساهمة بوتين في «صناعة» روسيا الحديثة هذه؟

علينا أن نعرف أن الروسي العادي لا يهمه سوى تأمين سبل معيشته الأساسية. ولا يعنيه كثيراً الخوض في المسائل الخاصّة بحقوق الإنسان والديمقراطية وما يرفعه الغرب من شعارات ويردده قادته في مختلف المناسبات. من جهة أخرى، يصبو الروسي العادي إلى تحقيق الأمن والاستقرار الداخلي. وخاصة أن منطقة القوقاز كانت قد عرفت الكثير من الأحداث وأعمال عنف امتدت إلى موسكو.

حداثة انحدرت

تشير في عنوان أحد فصول الكتاب إلى «النموذج المجتمعي الروسي». وتبدأه بجملة لصحفي روسي يصف فيها بلاده «تنتمي إلى العصور الوسطى» وأن «تقاليدها ومفاهيمها عن العالم يمثلان سر ثروتها». فما خصوصيات هذا النموذج ــ الموديل ــ الروسي؟

عانى الروس لفترة طويلة من عقدة «التخلّف» الذي يلصقه بهم الآخرون. والتخلف تحديداً بالقياس إلى الحداثة الغربية. لكن الأمر تغيّر اليوم، بسبب ما لاحظوه حيال ما أنتجته تلك الحداثة الغربية بمجتمعاتها. ولا يخفى على أحد أنها حداثة انزلقت نحو مسار انحطاطي وأثارت سلسلة طويلة من الأزمات.

ويرى الروس أن ما كان يبدو تخلفاً، حماهم من مثل ذلك الانحطاط الذي عاناه الغرب «الحديث». وكانت ردّة فعلهم التمسّك أكثر بمجموعة القيم التي تخصّ الأسرة والأطفال..,بالمعتقدات حيث استعادت الكنيسة دورها الاجتماعي بنشاط.

وكان من نتيجة ذلك كلّه شيوع هدوء كبير مجتمعياً، وسط جو من الاستقرار والاعتدال. وبالتالي الابتعاد عن القيم الغربية.

توجيه واستثمار تشير في الكتاب إلى «معركة في البحر الأبيض المتوسّط» على خلفية اقتصادية. ما دور الاقتصاد في السياسة الروسية بمنطقة الشرق الأوسط؟

يمكن القول إن اكتشاف حقول للبترول والغاز في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط ربما أنها لا تزال ببداياتها. ولا شك أن استثمار هذه الثروات الجديدة يثير اهتمام روسيا. ويحتمل أن يكون في طليعة حساباتها المساهمة في استثماره عبر توجيهه «تجارياً» نحو آسيا.

من هنا يمكن الاعتقاد أن روسيا يهمها الوجود «باستمرار» في البحر الأبيض المتوسّط وأن يكون لها نقاط ارتكاز محليّة.

«ربيع روسي»..رؤيتان تأمليتان للواقع تكشفان مسارات الغد

يطرح الكسندر لاتسا، الفرنسي المقيم في روسيا على رأس إحدى المؤسسات، في كتابه «ربيع روسي»، السؤال الجوهري التالي: هل روسيا بصدد حركة تجديد؟.. ذلك كما يشير العنوان الفرعي للكتاب.

اختار المؤلف كتصدير لكتابه أربع جمل، من بينها واحدة للرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول مفادها: «بالنسبة لفرنسا وروسيا توحيد صوتهما يعني قوتهما وتباعدهما يعني التعرّض للخطر».

وأخرى للرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين تقول ما مفاده «هناك الكثير من الأفكار العريضة الشائعة الموروثة من الماضي، ومن فترة الحرب الباردة. هذه الأفكار مثل الذباب الذي يحوم فوق اوروبا والعالم كله ويصمّ طنينه الأسماع ويخيف البشر. مع أن الواقع يقول شيئا آخر».

أزمة اقتصادية

يشرح المؤلف أن هناك حقائق بالنسبة لروسيا لا ينبغي بالمقابل تجاهلها. وقي مقدمتها أنها تعاني من أزمة اقتصادية حقيقية في السياق الراهن.

ويشير المؤلف إلى أن واقع الأزمة الاقتصادية التي تعيشها روسيا ــ مثلما هو الأمر بالنسبة للعديد من البلدان ــ اليوم، ليس دليلاً على «فشل المنظومة القائمة»، كما تردد «بأشكال مختلفة» وسائل إعلام غربية عديدة. هذا مع تأكيده أن «روسيا عادت من جديد اليوم، رغم الفترة القلقة التي تجتازها، لتصبح إحدى القوى الرئيسية الفاعلة على مسرح السياسة العالمية».

بل لا يتردد مؤلف هذا الكتاب في الحديث عمّا يسميه «اليقظة الروسية» وتأكيد صورتها في العالم كنموذج مجتمعي أعاد للقيم التقليدية بمشاربها العقائدية والعائلية، مكانتها وفعاليتها.

صورة خاطئة

ومن المسائل التي يؤكّدها لاتسا، أن الأوروبيين لا ينظرون إلى روسيا أنها «بلاد مثل البلدان الأخرى». والإشارة في هذا السياق إلى أنهم بأغلبيتهم الساحقة يجهلون حقائق الواقع الروسي ويربطون صورة روسيا بالتخلف والاستبداد. ثم أنهم أسقطوا تلك الصورة التاريخية على روسيا اليوم التي يرسمون لها «صورة شيطانية» على أنها تشكّل مصدر خطر عليهم.

ويتوقف مؤلف الكتاب طويلاً عند نقطة التحوّل الكبرى التي عرفتها روسيا عند تفكك الاتحاد السوفييتي السابق. ويشرح كيف أن الغرب، وخاصّة الولايات المتحدة الأميركية، رأت في ذلك بداية حقبة من الهيمنة تتسم بالهيمنة المطلقة لأميركا على العالم.

«الطاقة في أوراسيا»

يؤكّد في مثل ذلك، المنظور أن «السيطرة على أوراسيا ــ المنطقة الواقعة بين القارتين الأوروبية والآسيوية التي تمثّل روسيا مركزها ــ تشكّل أحد المصادر الأساسية للفكر الاستراتيجي الأميركي». ذلك على خلفية أهميّة ما تحتوي عليه من مصادر الطاقة. وما يعبّر عنه المؤلف بـ«الحرب من أجل الطاقة في قلب أوراسيا».

«عودة القيم»

ويشرح المؤلف المرتكزات الأساسية لـ«النموذج ــ الموديل ــ المجتمعي الروسي». ويتحدث هنا عمّا يسميه إعادة الإعمار المادي بالتوازي مع الترميم الأخلاقي وما ولّده ذلك لدى الروس من إعادة الثقة بالدولة وبالتالي بالمستقبل.

ويشير الكتاب إلى أن إعادة دور الدولة عنى بالنسبة لعشرات الملايين من الروس الأكثر فقراً، عودة المؤسسات والمصالح العامّة للعمل بصورة طبيعية ودفع الرواتب بانتظام للعاملين والمتقاعدين وتزويد المستشفيات بما تحتاجه وقيام الدوائر الحكومية بدورها الطبيعي.

تلك المسائل كلّها تواكبت مع عودة القيم. والترجمة الأكثر بلاغة لذلك يجدها المؤلف بالنهوض الديموغرافي الذي عرفته البلاد اعتباراً من عام 2005.

انهيار محتمل.. وقدرات

لا يتردد الكسندر لاتسا في الحديث عن ربيع ديموغرافي روسي. وهو يدعم مثل هذه المقولة بسلسلة طويلة من الأرقام، تبيّن مسار الخط البياني للتطوّر السكاني ــ الديموغرافي ــ الذي عرفته روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، بل وقبل ذلك، حتى اليوم. كما يبين أن روسيا، على عكس الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ليست بحاجة للهجرة لتوفير التعددية الثقافية فيها. ذلك أنها تتسم منذ القدم بـ«تنوّع ثقافي ليس هناك مثله».

لكن ما المسارات التي ستنهجها روسيا الغد؟ هذا السؤال هو الذي يناقشه المؤلف في الصفحات الأخيرة من الكتاب. ويتركه مفتوحاً للنقاش.

بحّاثة متعمّق

ألكسندر لاتسا، كاتب فرنسي سبق له أن قدّم كتباً باللغتين الإنجليزية والروسية. يعيش في روسيا حيث يدير إحدى المؤسسات. وهو يؤكّد في كتاباته ضرورة النظر إلى روسيا كما تظهرها حقائق الواقع، وليس تبعاً لتطلعات الاستراتيجيات الغربية.

 

Email