إليزابيث ستروت:الكتابة فعل إلحاح مُستفزّ

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

غالباً ما تتسم الأديبات اللاتي يكتبن عن الحياة العائلية بأنهن يقعن في السرد المنزلي وطقوسه اليومية الروتينية، لكن الروائية الأميركية الفائزة بجائزة بوليتزر إليزابيث ستروت تنظر إلى أعمالها بطريقة مختلفة، سواء لجهة إحاطتها بموضوعات مثل الفقر والتفاوت الطبقي أو الحروب وتأثيراتها في العلاقات العائلية.

وهي تقول في مقابلة أجرتها معها صحيفة «أوبزرفر» بمناسبة صدور روايتها الخامسة «اسمي لوسي بارتون» التي أدرجت على اللائحة الطويلة لجائزة «مان بوكر» هذا العام: «الشخصي هو سياسي في النهاية»، و«أعمالي تحيط بحشد من الموضوعات أوسع نطاقاً مما قد يتصوره كثيرون».

استمدت عنوان روايتها الأخيرة من ذكريات فتاة تدعى لوسي عندما كانت طريحة الفراش في مستشفى ثمانينات القرن الماضي. وتوصلت ستروت إلى تأليفها بعد أن وضعتها مدة على مكتبها، وهي تعمل في العادة على كتابة مقاطع قصيرة عن مشاهد تصادفها، مشاهد لا بد أن تنطوي أو تستثير لديها نوعاً من الإحساس بالإلحاح المستفز، ثم تبقيها جانباً، وإذا انتفت عنها صفة الإلحاح، فإنها تتركها.

وكانت تعمل على عدة أشياء مختلفة معاً، عندما وجدت نفسها تعود إلى لوسي بارتون وهي طريحة السرير ووالدتها الجالسة على طرف سريرها، فأدركت أن صوت لوسي كان يتصف بخصوصية ينبغي الانتباه لها.

ذكريات

وفي الرواية، تكشف ذكريات لوسي عن خلفية تتصف بكثير من القسوة، قبل توجهها إلى نيويورك وتحقيقها بعض النجاح ككاتبة، وتقول ستروت التي تأتي من خلفية ريفية، إنها كانت تعي دوماً منذ طفولتها لوجود عائلة فقيرة وغريبة للغاية ومنبوذة من المجتمع.

وهذا الموضوع أثار اهتمامها أكثر فأكثر مع مرور الزمن، وقد ازداد أهمية في ظل الأوضاع التي تعيشها أميركا بوجه خاص. ولهذا، يعد موضوع الترقي الاجتماعي أكثر ما يثير اهتمامها، وخصوصاً كيف سيتبدى الأمر بالنسبة لفرد في تلك العائلة أثناء انتقاله عبر الخطوط الطبقية.

لكن لوسي في الرواية ستصبح كاتبة أيضاً. وفي ذلك، شعرت ستروت بأنها تجازف كثيراً، وتقول إنها استهجنت الأمر للوهلة الأولى، لكن بعد قراءة مسوداتها العديدة، أدركت أن لوسي كانت تتأخر في المدرسة وتستغرق في القراءة، وكانت قد كتبت على لسانها القراءة «قربت العالم إلي»، وقد شعرت بأنها جازفت كثيراً، فما الضرر من الذهاب في ذلك إلى النهاية؟

تجربة إنسانية

شخصياتها محببة في معظم الأحيان، لكن الروائية تجد في ذلك ابتذالاً، وكانت قد قالت في إحدى المرات: «ما يهمني ككاتبة ليس الخير أو الشر، إنما ظلمة التجربة الإنسانية والعيوب الثابتة في حياتنا»، وتؤكد أنها تكن حباً كبيراً لكل الشخصيات في أعمالها، ولا يهمها مقدار ما تتصف به من سوء في التصرف، لأن هذه من طبيعتها، بل تقول إنها كانت تردد أثناء تأليفها روايتها التي حازت على جائزة بوليتزر «أوليف كيتريدج»: «لا تكوني متحفظة، لا تكوني حذرة، لا بد من أن تتركي الشخصية على سجيتها».

في أعمالها يوجد حيز هام للمناظر الطبيعية، فهي ترعرعت في مين ونيو هامبشاير، وفي هاتين المنطقتين طورت حبها العميق للعالم الحسي ولتلك الصخور التي يغطيها العشب البحري في مين، ولغابات نيو هامبشاير بزهورها البرية.

لكن شخصية لوسي من الغرب الأوسط، وكانت ستروت في زيارة مع زوجها، عندما أدركت أن لوسي لا بد من أنها تنتمي إلى ذلك المكان، وتقول: «الكثير من السماء المحيطة بالمكان، وهذا المنزل الصغير في نهاية الطريق، وأدركت على الفور أن لوسي تنتمي إليه».

كاتبة مثابرة

ثابرت ككاتبة فترة طويلة قبل أن ينشر لها شيء، لكنها حافظت على استمرارية مثيرة للدهشة، تقول إنها تذكر قولاً للأديب والشاعر ريموند كارفر بأنه واصل الكتابة لفترة طويلة بعد أن وصل إلى نقطة كان من المنطقي أن يتوقف، وتذكر أنها كانت تجري حساباتها في وقت من الأوقات، ووجدت أنه أحرز نجاحاً قبلها بفترة طويلة، ولم تستطع أن تصدق ما حصل لها، لكنها استمرت، وكانت تحاول دوماً أن تنجز عملها بشكل صحيح.

الآن أصبحت كاتبة متميزة وحصدت جوائز بعد انتظار طويل، لكنها كانت تتدرب طوال 35 عاماً، منذ أن كانت في الخامسة من عمرها. وهي تشبه نفسها كمن يخوض ماراثوناً، ففي البداية بالكاد يتمكن من المشي لكنه يستمر في المحاولة والتدريب.

ومن ناحيتها، وجدت في النهاية الجمل التي يمكن أن تدخل شقوق الجزء المظلم من عقلها، وتمكنت من القيام بالأمر من خلال التكرار المحض، فالأمر بالنسبة لها لم يكن بين ليلة وضحاها، وإنما استغرقها ليالي عجافاً!

لوحة سردية

تعتبر روايتها «فتيان بورغس» أكبر لوحة رسمتها، وقد أجرت أبحاثاً على مدى سنوات لتتمكن من الدخول في عقل رجل مسلم وتصوره، وشعرت بأنه يتعين عليها اتخاذ وجهة نظر الرجل، والا بقي الآخر فقط في الصورة.

سيصدر لها العام المقبل كتاب يتناول الشخصيات المختلفة التي تتحدث عنها لوسي ووالدتها، لكنه ليس تتمة لروايتها، ولكن يكون بصوت لوسي، لكنه سيتناول حياة كل أولئك الأشخاص المختلفين الذين تتحدث عنهم روايتها الأخيرة، إذ إن لكل واحد منهم ما يقوله.

تضيء الرواية الخامسة للروائية إليزابيث ستروت بعنوان «اسمي لوسي بارتون» على الجانب الأكثر رقة وحناناً في العلاقات الإنسانية، وتحديداً على العائلات في اختلالها، وسوء معاملة أفرادها. وتتناول الرواية طفولة الفتاة لوسي وعلاقتها بوالدتها، التي جاءت للجلوس إلى جانبها عندما كانت طريحة الفراش في المستشفى في ثمانينات القرن الماضي.

وأثناء وجودها في المستشفى، تنظر لوسي في ماضيها وتعيد تصور الأحداث المتنوعة في حياتها ومعظمه مروع، عندما أهان والدها أخاها، وأجبره على السير مرتدياً ملابس والدته أمام الجميع، بعد أن قبض عليه يحاول انتحال حذاء الكعب العالي، وعندما أقفل عليها في شاحنة مع ثعبان، وعندما كانت تعيش مع عائلتها في مرآب يعود لعمها دون تدفئة.

صدمات الطفولة

لوسي لطيفة مليئة بمشاعر الحب تجاه كثيرين في حياتها، لكنها مجروحة، وعلى الرغم من أنها كبرت في العمر، وتزوجت، واصبح لها ولدان، وتتمتع بنجاح مقبول ككاتبة، ما زالت تستيقظ على صدمات الطفولة، وهي تصف نفسها: «كنت أمضي في تصور لوسي قطة مجروحة تموء في الشارع، واردت الاعتناء بها».

والدتها التي لم تفعل الكثير لحمايتها من حياة الفقر ومن والدها صعب التنبؤ، عاجزة عن منحها ما تحتاج إليه عاطفياً، ومشاعر لوسي تتأرجح تجاهها من طرف إلى نقيضه، لكنها تبقى طفلاً بحاجة لكسب قبول والديه الباردين.

ونعلم في الرواية أنها ترعرعت مع أخيها واختها في إيلينوي بين سيقان الذرة وحقول فول الصويا، عائلتها كانت فقيرة، حيث كان والدها يعمل في إصلاح الآلات الزراعية بشكل غير منتظم، فيما كانت أمها تتولى أعمال الخياطة.

وجبات العائلة في معظمها تتألف من الخبز ودبس السكر، ولا يوجد تلفزيون لديها، وحتى عمر 11 عاماً، عاشت العائلة في مرآب يعود لاحد الأعمام، ولم تكن هناك أي وسيلة للتدفئة، ولم تكن تسمع كلمة «أحبك».

وكانت لوسي تعوض عن ذلك بالبقاء في المدرسة حتى ساعات متأخرة، للتدفئة ولأنها كانت تحصل على علامات جيدة. وقد فازت بمنحة دراسية لكلية خارج شيكاغو. وأقامت هناك أول علاقة غرامية مع فنان، لكنها تخلت عنه بعد أن وجه ملاحظة مهينة لها بشأن الخبز ودبس السكر، ثم تزوجت بوليام الذي كان يعمل مساعداً في المختبر، والذي سوف يصحبها إلى مدينة نيويورك، حيث ستصبح لوسي كاتبة.

زيجات فاشلة

وجود الأم إلى جانبها في المستشفى لا يبعث على المرح، إذ تمضي والدتها بشكل قهري في سرد تفاصيل الزيجات الفاشلة لجيرانها وأصدقائها. ونعلم أن أخت لوسي متزوجة، لكنها ليست سعيدة كثيراً مع أطفالها الخمسة الذين لا تسير أحوالهم الاقتصادية على ما يرام. أما أخوها فما زال يعيش في منزل والديه يقرأ قصص الأطفال، ويمضي الليل بقرب حيوانات المزرعة عشية ذبحها.

وتمر في سياق الرواية كاتبة معروفة تلتقي بها لوسي عند وصولها إلى نيويورك، اسمها سارة باين، سوف تسهم في الإضاءة على الرواية نفسها. وعندما تقرأ سارة بعضاً من الصفحات التي كتبتها لوسي عن طفولتها ودخولها المستشفى، تقدم لها النصيحة التالية:

«اسمعي الآن، سوف يعاقبك الناس لأنك جمعت الشعر مع سوء المعاملة. كلمة حمقاء وتقليدية سوء المعاملة، لكن الناس سوف يقولون انه يوجد فقر من دون سوء معاملة، وأنت لن تقولي شيئاً، وإياك أن تدافعي عن عملك.

هذه قصة عن الحب، تعلمين ذلك. إنها قصة رجل تم تعذيبه كل يوم من حياته على أشياء فعلها في الحرب، وهذه قصة زوجة بقيت معه شأن معظم الزوجات في ذلك الجيل، إنها قصة أم تحب ابنتها بشكل غير مثالي، لأننا جميعاً نحب بشكل غير مثالي».

الرواية بذلك تكون أكثر من مجرد مصالحة بين فتاة ووالدتها، إنها وسيلة للتعافي من الصدمات. وكانت الكاتبة قد قالت في إحدى المرات: «أعتقد أننا نريد أن نعلم كيف يكون الأمر في أن نكون شخصاً آخر، لأن هذا الأمر بطريقة ما يساعدنا على إيجاد موقعنا في هذا العالم. فما نحن من دون هذا الفضول يا ترى؟».

«اسمي لوسي بارتون» إضاءة أكثر رقّةعلى علاقات مُختلّة

إضاءة

ولدت الروائية الأميركية اليزابيث ستروت في مين، وترعرعت في بلدات مين ونيو هامبشاير، حيث حفظت الشعر، وبدأت بإرسال القصص إلى المجلات في عمر 16 عاماً. تخرجت بشهادة في اللغة الإنجليزية من «بايتس كوليدج» في عام 1977، وذهبت بعد ذلك بسنتين إلى جامعة سيراكيوز للحقوق، حيث نالت شهادة في الحقوق إلى جانب شهادة في علم الشيخوخة. وتعمل الآن مساعدة بروفسور في دائرة اللغة الإنجليزية في «مانهاتن كوميونتي كوليدج» في نيويورك.

فازت بجائزة «بوليتزر» في عام 2009 عن روايتها «أوليف كيتريدج» التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني، وقد رشحت رواياتها لجوائز عدة من أهمها «أورانج»، وروايتها الأخيرة الخامسة «اسمي لوسي بارتون» مدرجة على اللائحة الطويلة لجائزة مان بوكر.

Email