سلوى بكر:التاريخ أهم مصادر إلهامي الأدبية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يميزها الغوص والمتابعة المعمقان في حقول التاريخ. كما أنها تولي عناية خاصة لمسائل مناصرة النساء والمهمشين. ومنذ البدايات..

وحين لم تجد نفسها في مجال التجارة الذي درسته، قررت أن تتجه إلى دراسة المسرح فاحترفت سلوى بكر النقد في رحابه. ولكنها لم ترتوِ أو تكتف بذا، بل تحولت إلى الكتابة الأدبية في منتصف ثمانينات القرن الماضي، فقدمت نتاجات مهمة. وهي تؤكد في حوارها مع «بيان الكتب»، أن التاريخ أهم مصادر إلهامها الروائي، وأن الأدب النسوي في رأيها، هو الكتابة عن معاناة المرأة من وجهة نظرها.

تستخدمين في روايتك الأخيرة «شوق المستهام» مستويات مختلفة من اللغة. فهل أن ذلك مقصود؟

اللغة في القصة هي رسم الشخصية من الخارج والداخل أيضا. رسم الشخصية يتضمن التعبير عن مرجعيتها، ومن هنا فإني أستنطق الشخصية بلغتها، إذ هناك مستويات للتعامل مع اللغة، وهي ناتجة عن البيئة والمرجعية والواقع الاجتماعي والتاريخي، وأنا أستخدم «فصيح العامية» حتى لا يكون هناك خلل سردي في نصي الأدبي.

و«شوق المستهام» رواية تضرب في أعماق التاريخ، حيث أعتبر التاريخ أحد جوانب الإلهام المهمة بالنسبة إلي في مجالات الإبداع الأدبي والكتابة عامة، فهي تعبر عن واقعة اطلاع كاتب مجهول على بردية قبطية تعود إلى زمن بعيد وتضم معارف ووصفات طبية تعود إلى العاصمة المصرية الأولى، بعد التوحيد في مصر القديمة.

«تغيير الوعي الإنساني مهمة أساسية للكتابة»، هذه إحدى القناعات التي تنطلقين منها. هل هذا يعني أن الكتابات التي لا تغير من الوعي الإنساني غير مجدية؟

الوعي الإنساني متعلق بكينونة الإنسان ووجوده في هذا العالم وعلاقاته مع الآخرين ومع منْ حوله. والكتابة الأدبية مساهم أساسي الآن في تغييره، لأن التلاعب بالوعي الإنساني في اللحظة الراهنة أصبح معقداً وخبياً وينتج بطرائق ملتوية. إذاً؛ الكتابة الأدبية، وباعتبارها معنية بالضمير الإنساني في المقام الأول، تستطيع أن تقوي وعي الإنسان وترشده في كثير من الأحيان.

المسكوت عنه

وماذا عن الأعمال الـ«بيست سيلر»، والتي يرى النقاد أنها لا تسهم في تغيير هذا الوعي من الأساس؟

لهذا النوع من الكتابات جمهوره، وليس بالضرورة أن يقوم على تغيير الوعي، فمثلًا الأغاني الهابطة تحظى برواج كبير، لكنها أقل تأثيرا في ذائقة الناس وإحداث تغيير حقيقي في كل ما هو جميل وسامٍ في هذا العالم، فهنا القياس غير صحيح.

يصفك نقاد بكاتبة المهمشين.. هل تضايقك الألقاب أم تسعدك لأنها تعبر عن قضية في صلب اهتماماتك؟

في الحقيقة، أرى أن التصنيف يكون مفيدا أحيانا، إذ صُنفت على أني كاتبة المهمشين، كما صنفت أيضا أنني كاتبة نسوية، وصنفت أنني أول من حاول أن يطرح أسئلة التاريخ مجددا ويبحث عن المسكوت عنه تاريخياً، أنا أوافق عليه، فهو اجتهاد نُقّاد محمود، يسعى إلى محاولة إفهام القارئ ومساعدته على تلقي وتذوق العمل الأدبي.

هل تنبع الكتابة عن المجتمع بفعل قراءاتك أم مقابلة الناس؟

أي كتابة تترك أثراً في المتلقي لا بد وأن تكون نتاج تجربة حياة. والمقصود بتجربة حياة ليست التجربة الذاتية، ولكن معايشة الناس، وتمثل أحلامهم وهمومهم وآلامهم، فهذا يعين على الكتابة، فكيف أتمثل ما يشغلهم ويسكن فكرهم دون أن أعايشهم؟! الكتابة بالفعل تعبيرٌ عن تجربة إنسانية كلما استطاعت أن تعبر عن التجربة بصدق، ومعيار الصدق هو التأثير في المتلقي.

تجربة الحياة أن تشعر بالناس، لكن هذا لا يعني أن تقابل الناس بشكل شخصي، المهم هو تمثيل الناس. وشخصيا، مررت بعديد من التجارب الحياتية الثرية، إلى جانب خيال الأديب، برأي ما هو أهم الشعور بالتجربة الإنسانية.

جمل جزافية

تُصنف الكاتبات المصريات إلى: مناضلات أو كاتبة «أنثى». إلى أي مدى تتفقين مع هذا التصنيف؟

لكي أصل إلى مثل هذه التصنيفات لا بد أن أبحث أو أدرس كل الكاتبات، فما المقصود بكاتبة مناضلة؟ هذه الجملة عامة، لكن العلم شيء آخر، وهذه مشكلتنا أننا نقول جملاً جزافية، وأرى أن هذه الأشياء لا يجب التوقف عندها.

وهل يصح إطلاق تصنيفات أدبية مثل «الكاتبة النسوية» أو غيرها؟

نعم أرى أنه يصح. لكن هذا لا يعني أن أية كاتبة ينتهي اسمها بتاء التأنيث تكتب كتابات نسوية، بل يمكن القول إن الكاتبة النسوية هي التي تحاول أن تكتب من منظور المرأة، أو من تقوم بمحاولة ابتداع طرائق وأساليب تعبر عن عالم المرأة. لذلك، أعتبرُ أن الكاتبة التي تصف المرأة مجرد وصف ليست كاتبة نسوية، فالتصنيف شكل من أشكال المساعدة للمتلقي كي يفهم عالم الكاتب.

إشكاليات المرأة

تُفضِّل بعض الأديبات الكتابة من وجهة نظر نسائية، بينما أنت تزاوجين في أعمالك بين قضايا النساء والرجال، وترصدين عالم الرجال كذلك. فهل يدحض هذا الأمر فكرة بعض النقاد عن كون الكاتبة النسوية لا تكتب إلا عن المرأة؟

بالفعل، هناك نقاد يظنون أن الكتابة عن قضايا هامشية تخص اللوعة والفراق عند المرأة هي الكتابة النسوية، هذا موجود في بعض الأعمال أو داخل القضايا، رغم أن رجالاً كثيرين يكتبون عن ذلك داخل أعمالهم، وذلك باعتبار كل إنسان منهم يُحبّ، ولكن الأمر يختلف تماما، حيث تعتبر النسوية رصد إشكاليات المرأة من منظور المرأة، فالنساء يواجهن معاناة مختلفة عن معاناة الرجال.

أصدرتِ روايتك الأولى «زينات في جنازة الرئيس» على نفقتك الخاصة.. فما رأيك في دور النشر التي تجبر الآن بعض الكتاب على الدفع لنشر عملهم؟

خُضتُّ هذه التجربة لأن ظروف النشر وقتها كانت صعبة جدا، فعندما أتحدث عن ظروف النشر أتحدث عن الأوضاع الاقتصادية للناشرين، ربما الوضع تغير الآن، لكن هناك سعيا أكبر من جانب الكُتّاب لأن ينشروا أعمالهم الأولى على نفقتهم الخاصة، وأرى أن في هذا جانبا إيجابيا، لأنه في مجال الإبداع دع ألف زهرة تتفتح، المهم أن تكون هناك مواكبة نقدية لهذه الأعمال وترشيد نقدي للكاتب يعينه على إنتاج أفضل في المرة المقبلة.

محنة

هناك كتاب يعيبون على النقد أنه ضعيف ولا يناسب الإنتاج الأدبي الحالي. ما تقييمك؟

أية ظاهرة لها أسباب متعددة، فالناقد عادة رجل أكاديمي، والأكاديمية في مصر تعيش محنة، إذاً الناقد لا يستطيع أن يواكب كل المنتج الأدبي الذي يطرح في السوق، إذ هناك كم كبير من الأعمال الأدبية المتنوعة ما بين الشعرية أو القصصية، فكيف للناقد أن يواكب كل هذا الأمر!؟

الناقد عندما يشتغل بشكل حقيقي فهذا يتطلب منه الوقت والجهد، ويحار أين ينشر في ظل كون الفضاءات المتاحة للنشر محدودة جدا، ثم ما المقابل الذي يحصل عليه الناقد؟! فهذه مسائل متداخلة..

ولا يمكن اتهام النقاد بعدم مواكبة الأعمال، فكل الجهود والمبادرات فردية، وفي النهاية نحن لسنا جهة تحقيق بوليسي لنرى منْ كتبَ هذا ولصالح من وغيره، ولكن المشكلة موجودة بالفعل، هناك كم كبير من الإبداع وملاحقة نقدية محدودة إلى حد كبير.

مصر التي أعرف

رغم سفرك إلى عديد من الأماكن وقراءتك الغربية، اخترتِ في رواياتك الحديث عن الواقع المصري بكل ما يحتويه. لماذا؟

أنا نوع من الكُتّاب يكتب عما يعرفه جيدا، فربما لأن أكثر شيء أعرفه مصر، وأتصور أن من يعرف مصر لا ينبهر بغيرها: من يعرفها جيدا، من تاريخها وعطائها وما قدمته للإنسانية والبشرية، وهذا ليس كلاما شوفينيا، فأنا ليس لدي تعصب قومي، لكنها الحقيقة.

«شوق المستهام» حلقات ثقافية مفقودة وقطيعة مزمنة

تحكي رواية «شوق المستهام» عن كاتب مجهول يزور بردية «زويجا» الطبية الشهيرة في معبد إمحوتب بمدينة منف الفرعونية. ومن خلال الزيارة، يتناول السرد الروائي أسباب القطيعة مع ماضي مصر الحضاري، ويسعى من خلال رحلة بطل الرواية في الربوع المصرية، إلى البحث في الحلقات المفقودة والفواصل التاريخية التي تسببت في تلك القطيعة الثقافية بين الماضي والحاضر.

تدور أحداث الرواية في منتصف القرن التاسع الميلادي، عبر ملحمة يخوضها البطل الراهب الشاب «أمونيوس» الذي ولد في «قربيط» بدلتا مصر ووهبه والده إلى دير مريوط، وبعد مرور ست سنوات يتلقى رسالة تخبره بمرض أمه؛ فيذهب إلى زيارتها ليفاجأ في القرية بإصابة أخيه بالعمى نتيجة وباء أدى إلى عمى وموت كثيرين وفر منه آخرون إلى مناطق بعيدة خوفا من الموت.

ألغاز وأسئلة

ترصد الكاتبة الكثير في محطات الرحلة، ساردة الكثير عن ما تبقى من لفائف الأقدمين الطبية، من أجل البحث عن علاج للوباء الذي قضى على قرى مصرية بأكملها، ليكتشف الراهب أن بعض ما وجد من لفائف في بيت أحد حراس المعابد يستخدمها في الحرق وإشعال النيران للتدفئة في الشتاء، وأنه لم يعد قادرا على فهم لغتها التي باتت سرا ولغزا، وهو الأمر الذي يطرح كثيرا من الأسئلة حول فكرة اختفاء اللغات، والتي تؤدي إلى اختفاء شعوب كاملة.

من خلال تلك الفكرة الإنسانية التي تعكس صعوبة التواصل مع الآخر، تركز الرواية على ثلاثة عصور: أولها عصر الاحتلال الروماني لمصر، وهو الوقت الذي تعرض فيه المصريون الذين اعتنقوا المسيحية إلى الاضطهاد..

ورغم اعتراف الرومان بالمسيحية، إذا بالمصريين الذين اعتنقوا الدين الجديد، ينقلبون على المصريين الذين تمسّكوا بديانتهم القديمة، واصفين إياهم بالوثنيين، حيث هدموا الآثار المصرية وحولوا المعابد إلى كنائس. كذلك تناقش الرواية مسؤولية المسيحيين عن عدم الدفاع عن اللغة المصرية القديمة، حتى في مرحلتها القبطية، ثم انتهت الرواية بدخول الإسلام، لترصد تغير كل مرحلة، وما أثرت به على الوعي المصري حينها.

لغة من الماضي

ويحسب للكاتبة سلوى بكر، أنها استطاعت رسم شخصية البطل ببراعة تامة، إذ رغم التسامح الواضح بداخله؛ إلا أن نفسه لا تزال تعتمل بالكثير من الصراعات.

أما فيما يخص اللغة، فبرعت الكاتبة فيها، حيث توهمك أن اللغة كلها قادمة من الماضي الذي تحكي عنه، وهو الأمر الذي يجعل القارئ يعيش أجواء الرواية دون أن يشعر، ويعتبر النقاد أن أبرز ما يميز كتابات بكر وتلك الرواية، هو اللغة السردية التي تعتمد على كلمات تلائم الماضي أو العصر المراد طرحه، كما أنها لا تستشعر أنها لغة ثقيلة على القارئ أو مقحمة على الرواية.

تداخل

وفي العموم، ترصد الكاتبة منطقة لم يدخل إليها أحد من قبل في 177 صفحة، وفق رأي الناقد شعبان يوسف، لكنها بحثت في الجديد، وغاصت في الماضي من الحاضر، صانعة تداخلاً زمنياً يربط العوالم والأزمنة سوياً.

Email