فاطمة الشيدي: الرواية الخليجية قادمة بقوة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

رحلتها الأدبية تمتد طوال عشرين عاما، وفيها تنقلت بين عوالم الشعر والرواية فقدمت للمكتبة العربية حتى الآن، ثمانية إصدارات متنوعة.

إنها الكاتبة العُمانية فاطمة الشيدي الحاصلة على درجة الدكتوراه في فلسفة الآداب، والتي تؤكد في حوارها مع «بيان الكتب» أن الرواية الخليجية قادمة بقوة، لا سيما بعد أن استوفت كثيرا من عناصر نجاحها وتميّزها، وموضحة أن القارئ هو المحرك الحقيقي لبوصلة الكاتب.

حققتِ حضورا قويا في مشهد الإبداع العماني الذي يمتاز بالخصوصية الشديدة.. كيف ترين حضور التراث في أدب السلطنة عامة؟

التراث يشكل جزءا مهما من الأدب في سلطنة عمان، بل لعله الجزء الأهم، فخلال سنوات قليلة شكّلت المنظومة الفكرية الفقهية والعلمية والتاريخية مدونة الذاكرة العمانية وتاريخها، كما تشكل تفاصيل حياة الإنسان جزءا من التراث الآني، فكل ماضٍ قريب يتحول مع الزمن إلى ماض..

وكل ماض يتشكل عبره تراث ثقافي ومادي، وكل تراث فكري - كالحكايات والأمثال والأساطير والمدونات الفكرية بمختلف مشاربها - يمثل مادة خصبة للباحث ومدخلا عظيما لكتابة أدب جاد واقعي أو مزيجا بين التخيلي والواقعي.

هذا إضافة الى التراث المادي الذي يشكل خلفية ثقافية يمكن للأدب أن يجعلها فضاء يتحرك عبره نحو قراءات ماضوية أو حاضرة، أو حتى يشكل مهادا لنص تاريخي ثقافي، كالرواية التاريخية التي لدينا الكثير من المواد الخام لبنائها على نحو فريد وخاص، لكن للأسف لا تزال حلما لم يتحقق، ولم يحدث البناء بأنامل كاتب عماني كما يجب.

احتكاك ومشاركة ما مصادر إبداعك؟

الإبداع حالة عميقة جدا، وبالتالي فكل ما يتأثر به الوعي واللاوعي يدخل في صميم الرؤية الإبداعية شئنا أو أبينا، وبالتالي فكل ما مر كان عنصرا هاما من عناصر التأثير، من: خبرات إنسانية وحياتية، قراءات، مشاهدات أفلام، موسيقى، عروض مسرحية. إضافة إلى التعمق المنهجي النقدي والفني عبر النهج الأكاديمي دراسة وتدريسا، وعبر الندوات والمحاضرات التي يتاح للمرء أن يكون ضمنها محاضرا أو مشاركا.

إنها الحياة الثقافية والإنسانية التي تشكل نهرا لا يمكن الاستحمام فيه مرتين، حيث الاحتكاك والمشاركة الإنسانية، والرؤية التأملية العميقة والجارحة للوجود وكائناته المتعددة والتي تقدم بدورها دروسا حقيقية في الجمال والحرية والأمل، والوعي والنقد الرافض للتحكّمات الضمنية في حرية الكائن وانطلاقاته الواعية عبر الأكثر من الممكن والمتاح.

ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في تعزيز الوعي بالوجود وجمالياته والإنسان وقضاياه.

سطوة الرواية

تتربع الرواية على عرش القرن الحالي. ما السبب.. وأي عوامل رسخت هذا؟

لا جدال في هذا الواقع الأدبي. الرواية اليوم السبيل الأهم لكتابة الإنسان من أعمق نقطة فيه متصلة بحاضره ومستقبله معا، والتعبير عن قضاياه، وتفاصيل وجوده بحالة حكائية لا تخلو من واقعية؛ إنها النقلة النوعية في الكتابة التي تتبنى تعدد صورة الإنسان والتركيز الأكبر على الهامش. أصبح كل شيء يمكن أن يدخل في الرواية، بدءا من الفكرة وحتى المكان..

وإذا كنا هنا نتحدث عن الكاتب والنص فإن القارئ في الحقيقة هو الذي يحرك بوصلة النص ويفرض ذوقه سلفا على مؤسسة الكتاب ودور نشره، والحكاية كانت ولا تزال شغف القارئ في كل مكان وزمان، منذ الحكاية الشفهية وحتى المكتوبة.

ما أكثر ما يميز الأدب العماني؟

التاريخ. ذلك الثقل الحضاري الذي يذهب مباشرة للنص عبر الشخصية والمجتمع، التاريخ الذي يحاول العماني التواصل معه عبر بعض حلقاته المفقودة غالبا، متخذا من روحه جسرا لعبور ذلك الشطر وعبر تجليات الحضور..

والتي تتخلق لاحقا عبر «نوستالجيا إنسانية» حادة تظهر عبر النص، حدثت تلك القطيعة بين الإنسان وتاريخه عبر أزمنة عديدة، ثم جاءت النقلة المدنية النوعية لتأخذ الإنسان فجأة من عالمه القروي الرحيم الشبيه بالرحم في حناناته، عالم يعرف فيه كل شيء وكل أحد، إلى عالم جديد تماما لا يعرف فيه أحدا، إنه عالم المدنيّة وغابات الأسمنت، عالم طارئ.

ومغاير لكل شيء خبِرَه وعرفه، كان هو سيده، يصنع من نخلته كل لوازم الحياة، ويزرع احتياجاته ويحصدها، ليجد الآن نفسه عبئا على المدنية الجديدة؛ يستورد كل شيء من اللقمة حتى الثوب، ويصنع له الآخر سيارته وبيته، ولا دور له إلا مراقبة الحال.

وهذا الأمر شكّل شجا كبيرا في ذاكرته، وسجنا مُحاصِّرا لوعيه وإنسانيته، فأصبح غريبا في القرية والمدينة معا، ولم يعد قادرا على صناعة ذاكرة أخرى بتلك الحميمية.

حقيقة

كيف تقيِّمين مسار الرواية الخليجية، لا سيما بعد أن كسرت نطاقها المحلي؟

ألفت أولا أنني ضد التقسيم الجغرافي المجزوء للأدب وفق إحالات خارج اللغة، فالرواية الخليجية عربية أولا وأخيرا، وليس علينا التشبث بهذه التقسيمات التعسفية أو الاستعمارية بشكل أفصح..

كما ليس علينا أن نصدق ونعيش التجزئة الفكرية المرادة لنا لتمزيقنا إربا وأشتاتا وتفريغنا من قيمتنا الكبيرة؛ بل علينا أن نتمسك بوحدة الضمير اللغوي والتاريخي والجغرافي العربي، لنحاول النجاة قليلا من هذه القطيعة الفكرية والتقسيمات الجسدية والتشرذم النفسي المصنوع بوحدتنا اللغوية في الأقل.

لكن، خارج كل هذا أقول إن الرواية الخليجية في المطلق، رواية شابة جديدة وناهضة، ولذا فهي قادمة بقوة، لأنها استفادت كثيرا من التمهيد الزمني والفني لصناعة الرواية، والشوط الكبير الذي قطعته الرواية العالمية والرواية العربية، إنها رواية لم تبدأ من الصفر؛ بل جاءت من حيث انتهى الآخر وتشكل الوعي السردي العام بالأنواع والأجناس والثيمات والتقنيات..

ولذا فهي جادة، محمّلة بثقل معرفي واتزان وجدية في التشكل والحضور، وأثبتت في ذلك عمقا وجاهزية حقيقية للذهاب نحو الأجمل، وأصبحت قادرة على المنافسة في القراءة وفي الجوائز، وعلى تحقيق حضورها الفعلي في الحالة الثقافة العربية والعالمية ربما، بمصداقية وثبات، وأظنها تخطو خطوات رصينة وثابتة نحو الأبعد والأجمل.

غربال مفقود

ما موقفك من النقد وانعدامه في المشهد الثقافي؟

النقد مصطلح علمي، وهو حالة طبيعية في الأوساط الثقافية الحقيقية. إنه الغربال الذي ينقّي الغثّ من السمين ويرفع الحقيقي إلى مدارات النقد والرؤية، والناقد الحقيقي مبدع كبير، لا يقف عند حدود النص، بل ربما يكتشف فيه مخبوءات وكنوزا لم يرها المبدع ذاته، الناقد المبرز هو قارئ كبير ومتذوق عظيم.

أما ظاهرة انعدام أو موت الناقد فللأسف موجودة في عالمنا العربي الذي يذهب كل شيء فيه نحو الموت والضياع. الناقد العربي الكبير غالبا ناقد فوقي يعيش في أبراجه الأكاديمية، ولا يظهر سوى في الندوات والمؤتمرات ولا ينشر سوى في المجلات العلمية المحكمة لأغراض أكاديمية...

النقد عليل ويحتاج حركة ثقافية واسعة، وعلينا ألا نسمح بموت الناقد الحقيقي؛ لأنه الأمان الحقيقي لحركة ثقافية مزلزلة ومغيرة تذهب بنا نحو المستقبل الثقافي المنشود، وكي لا يطغى أشباه النقاد وأشباه الكتاب ولا تنزل الثقافة العربية بمستواها أبعد مما هي عليه الآن.

تعود فاطمة الشيدي في مجموعتها الشعرية «على الماء أكتب» إلى الشعر من جديد بعد أن غزت عالم الرواية بـ«حفلة الموت» الصادرة في 2009. وتأتي العناوين الداخلية لديوان «على الماء أكتب» متماشية مع العالم الشاعري الذي تخلقه العناوين الخارجية، وبذا جاءت القصائد مقسمة إلى ثلاث:

«نفاف القلب» و«مسودات الغرق» و«من الماء إلى الماء». وكما هو واضح، فتلك المجموعة الشعرية تقدم مفهوم الكاتبة الخاص وقراءتها عن الماء والبحر والنهر، وكما تنهل منه المياه لتشبع شغف الأرض لترتوي.

«الحنين والذاكرة»

تعتمد الكاتبة على فكرتين أساسيتين لتقوم عليهما مجموعتها: «الحنين والذاكرة»، وهو ما يتلاءم مع فكرة المياه والغموض الذي يحيط بها، رغم الشفافية الموجودة في ماهيتها، وهو ما يجذب القارئ، لا سيما بعد غرقه في المعاني المتداعية من الكلمات الشعرية. وتقدم «على الماء أكتب» كلمات متسلسلة كالمياه المتسربة من دون انقطاع..

مشيرة إلى قدرة الشاعرة على استحضار الكلمات بسلاسة، خاصة مع مباشرة الكلمات وبساطتها. وتستخدم الشاعرة لغة عالمية لا ترتبط بجنس معين، فرغم أنها أنثى إلا أنها تكتب للحظة وتصورها كما هي، من دون إسقاط شخصية معينة عليها، وهو ما يجعل الشعر منبعا للجميع، ومع هذا لا نستبعد روحها الخاصة الظاهرة في أشعارها.

صمود القصيدة

استطاعت فاطمة الشيدي من خلال المجموعة إرساء موهبتها وأدواتها الشعرية المبحرة في عذوبة الصوت وجاذبية الصور التي ترسمها الكلمات، إلى جانب تحقيق البناء المتماسك للكلمات ليصل القارئ للمعنى المراد في النهاية، وتمنح القصيدة صمودا إلى جانب الرشاقة التي تبعثها الكلمات.

فمن خلال 160 صفحة متوسطة الحجم تنقل فاطمة قارئها إلى خوالج عميقة، عن طريق 25 نصا شعريا متنوع الحجم والطول، بعناوين متنوعة. وتتجلى في القصائد الشعرية سمة التغني والقافية رغم عدم التزام شعر التفعيلة، إلا أن القصائد جاءت مرنة وغنائية، يتخللها بعض من الشعور بالشجن والصفاء الروحي وحالة من اكتشاف الذات والمحيط.

لذا؛ يمكن اعتبار المجموعة الشعرية تجليا في الرؤية للمحيط والتماهي مع الذات دون الانتزاع من الواقع الذي نجد له بعض الأصداء في المجموعة من حين إلى آخر، ممثلا في المواقع والعصافير والبحر والليل، وهي مواقع تحقق غرضها المادي وكذلك تقدم بعدا شاعريا لما تحمله من معانٍ ضمنية.

 

Email