أحمد الشهاوي: أخشى الكتابة وأمارس الحذف كثيراً

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتسم أعماله بالقلة والجودة والشاعرية العميقة في آن واحد. وهو لا يكف عن جعل التأمل والفلسفة نهجاً وروحاً تبث الألق في شعره وترفد غناه. ويوضح الشهاوي في حواره مع «بيان الكتب»، أنه ضد التكلف والتعمد والقصدية، خاصة في الكتابة. كما يشدد أن التجديد والتنوع جناحا تميز الأدب..

ولا بد من كسر حصار التقليديين للابتكار في الشعر والقص والمسرح.. وغير ذلك من صنوف الإبداع. ويبين أن العفوية والتلقائية هما الأساس في البناء الجمالي والفني لأي إبداع شعري. كما يشدد على أنه كاتب يخشى الكتابة (أي لا يستسهلها بل يوليها اهتماماً كبيراً)، ويحذف ويغير كثيراً حتى يصل إلى مستوى منتج إبداعي سمته الكفاءة العالية.

ما أهم الروافد التي أمَّنت لك الخصوبة والتباين فيما تكتب في ظل تنوع سياقات إبداعك؟

هناك عدد من الروافد الخاصة بإبداعي ساهمت في تشكيلي أدبياً، أولها القراءة، حيث إنني أصنف نفسي كقارئ أكثر مني شاعرا أو كاتبا، فأجد مشقة في الكتابة ومتعة أكبر في القراءة، وأتعجب من الذين يصدرون كتبا بصورة دورية، وأعرف صديقا أصدر ثلاثة كتب في أسبوع واحد، بينما ظللتُ عاكفا على إنجاز كتابي الأخير طوال عامين.

كذلك أرى أن التأمل والفلسفة من أهم الروافد المهمة للشعر، وعلى الشاعر أن يتأمل في ما حوله حتى يستخلص معنى الحياة ويتوحد معها ويعبّر عنها بطريقته.

ما القضايا والمبادئ الأساسية في العملية الإبداعية لديك؟

أنا ضد التكلف والتعمد والقصدية، خاصة في الكتابة، حيث تعتمد على الخلق والابتكار والإبداع، واصطدامها مع القصدية والتعمد سيهمش من تكوينها، لذا فالعفوية والتلقائية هما الأساس في البناء الجمالي والفني لأي شعر.

والتأمل بالنسبة إليّ نزعة متزامنة مع الشعر منذ طفولتي، لأنني بدأت مبكراً في الشعر.

رغم بداياتك المبكرة إلا أن إنتاجك الأدبي قليل.. إلى ماذا تُرجع ذلك؟

أنا أخشى الكتابة، حيث أمارس الحذف كثيرا، وكلما أكتب أشطب حتى أصل إلى الإيجاز والكفاءة والكثافة، حيث إنني أخاف من الإسهاب، ويمكن أن أكتب وأمحو ما كتبت، كما أنني لا أنشر مباشرة فور الانتهاء من الكتابة، بل أكتب وأترك ما كتبت لأعود إليه بعد فترة وأرى تأثيره.

وأشبه نفسي بتوماس ترانسترومر، وهو شاعر سويدي التقيت به في سوريا مع أدونيس قبل سنوات، وهو أغرب شاعر في التاريخ، حيث أعماله قليلة ولديه دواوين صغيرة للغاية يمكن أن تصل إلى عشر صفحات، فلا يبقي مما يكتب سوى ما يراه مفيدا فقط، وفور مماته كان لديه ديوان صغير يضم كل أعماله!

وعن نفسي، فإن أغلب الأعمال التي طبعتها أكثر من طبعة، كنت أحذف في كل مرة وأغيِّر ما أقدم، ففكرة الحذف مهمة بالنسبة إليّ، لا شك بعد مشاركتي في برنامج الكتابة الإبداعية الدولي في عام 1991 إلى جوار عديد من الشعراء المشاهير العالميين، حيث وجدت أن الكتابة تحتاج إلى سعي.. ولا بد من التفرغ للكتابة والشعر.

هاوٍ في حضرة الشعر

كيف تقيم تجربتك الأدبية؟ وما أبرز سمات شعرك؟

أجد نفسي لا أزال هاويا في حضرة الشعر، وأفضِّل أن أظل هكذا. أما عن سمات شعري، فجُلُّ ما أريده من الشعر التعبير عن روحي وذاتي، وكل شاعر له عقل ناقد، وأرى أن الترحال والانتقال من حال إلى حال أبرز سمات شعري.

لأن في التنوع تجديدا وحداثة. وفكرة التكرار سقيمة، وفي الوقت نفسه أريد أن أعبر عن أحمد الشهاوي صاحب الهوية والشخصية العربية المصرية ابن لغته العربية، وأن تكون شخصيتي حاضرة في ما أكتب.

أرفض الانسحاق حضارياً

تُرجم عدد من دواوينك الشعرية إلى لغات كالإنجليزية والتركية.. هل أضافت لك هذه التجربة؟

كنتُ محظوظا في انتقال لغتي الشعرية إلى الغرب عن طريق الترجمة، لكن جُلّ ما أريده هو التعبير عن نفسي وكياني، وأن لا يُقال «هذه بضاعتنا ردت إلينا». كما أنني في المقابل، لا أحب أن أنسحق أمام النص القادم من الغرب لأي دولة أو أي حضارة.

كيف ترى حضور التراث العربي في الشعر والأدب بصورة عامة في وقتنا الحالي؟

العرب أصل حضارة الشعر، حضارتنا قائمة على نظم الكلام والمعاني. ولكن حاليا نجد غالبية الكتاب والقراء غافلين عن التراث العربي، بينما يحتفي مبدعونا بالكتاب والشعراء الغربيين، ومن الصعب فهم هذا الأمر. تراثنا بين أيدينا ونتركه لننتقي من الغرب ما يقدمه، في حين أن الغرب يأخذ كل ما لدينا لأنه الأجود والأقيم والأفضل.

وكان للعرب ما يُعرف بالحوليات التي يكتبون فيها على مدار العام، مع هذا لا يستعين الكتاب بها أو حتى يعرفون بوجودها، وتظل حبيسة جدران المكتبات بالنسبة إلى العرب، فيما حلقت في سماء الإبداع بالنسبة إلى الغربيين الذين وجدوا فيها صفاء اللغة وقوة البلاغة، لهذا أعيب على الشعراء والكتاب العرب الذين يتجاهلون أدبهم وصورتهم الأصلية ولا يسعون إلا للتقليد والنسخ من حضارات غيرهم.

ماذا عن رحلتك مع النقد؟

أنا محظوظ في النقد، إذ كنتُ قريبا من بعض النقاد الذين اهتموا بي، مثل عبدالقادر القط الذي اهتم بي ونشر لي في مجلة «إبداع»، ورغم أنه كان له موقف من شعري إلا أنه كان يحتفل بي ويقدم لأشعاري وينشرها جنبا إلى جنب مع إبداعات رواد كبار مثل أمل دنقل. تزاملت معه بعد ذلك في لجنة الشعر عندما كان رئيسا لها..

وأنا كنت عضوا فيها مع الأبنودي وسيد حجاب ورجاء النقاش ومحمد عفيفي مطر والدكتور عز الدين إسماعيل احتفى بي كثيرا.

أما أول من احتفى بي من النقاد فكان الدكتور صلاح فضل في ديواني الأول «ركعتان للعشق»، وهو من النقاد الأذكياء لأنه يقدم حيوات ويحرق مراحل ويدل الكاتب على المناطق المضيئة منذ الديوان الأول، وهذه مهمة الناقد..

وكنا جيران سكن ولم ألتق به إلا حينما ناقش ديواني. ولا شك أن الراحل إدوارد الخراط كان له فضل كبير عليّ، إذ كتب أكثر من 200 صفحة عن شعري، وكنت أزوره بشكل دائم وكان يهديني كتبا من مكتبته، وأيضا جمال الغيطاني فعلاقتي به علاقة تاريخية ممتدة، وهو من الذين أستفيد منهم في المعرفة بالتراث وأحد الأسماء الكبرى في حياتي.

وهناك أيضا الدكتور محمد عبدالمطلب الذي حمل شعري معه أينما كان، وهو في المحصلة أو النهاية أكثر ناقد أضاء تجربتي نوعيا.

ما رأيك في الخلاف حول الأنماط الشعرية مثل القصيدة النثرية والشعر العمودي وغيرها؟

منذ سن الـ26 وأنا أسافر في العالم وألتقي شعراء من لغات ومخيلات وحضارات مختلفة، بينما نحن نستمر عند النقطة ذاتها. نناقش ما كان يُناقش قبل سبعين عاما، الدنيا تتغير وتتجدد وتتنوع ونحن نريد نوعا واحدا، الجمال في التعدد والتنوع وتجاور الجماليات، الجمال هو وجود أشعار متجاورة لمحمد عفيفي مطر وأدونيس ومحمود درويش وأمل دنقل، لا بد أن يتجاور هؤلاء جميعا.

أهمية شعر العرب القديم في تعدده وتنوعه وقدرته على الابتكار، أما فكرة التقليديين الذين يجثمون على صدور المشهد الأدبي فهي مرفوضة، حيث يريدون جدارا واحدا.. وأن يكون هناك سقف للكتاب يبدعون في إطاره، بينما الكتابة لا سقف لها، سقفها الوحيد هو السماء.

تحمل مؤلفات أحمد الشهاوي، روحية مفاهيمه وأفكاره، وهي أيضا ثابتة في تجسيد توجهاته. إذ إنه منتصر دائم لحرية الفكر، ومحب لأقانيم الخير والحق والعدل. وهو ما يبرز جليا في ديوانه الأخير «سماء باسمي»، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية في 192 صفحة..

وترجم إلى عدد من اللغات، منها: الإسبانية والتركية. يحمل الديوان قارئه إلى عوالم مغايرة للواقع المعاش، ويأتي في إطار ما عرف عن الشهاوي - وفق آراء عدد من النقاد ـ بأنه «حذاف» يستحدث عالما جديدا يرتقي من خلاله بأسلوبه. ويحكي الديوان، في طبيعة مضامينه وما يستعرضه من تفاصيل غنية، الكثير من رؤى شخصية الشهاوي. وهذا ما يوضحه الشهاوي في ديوانه، حين يقول:

ما أضعف سري

حين أكون وحيدا

في أرض لا تدري ما اسمي

ما أثقل سري

حين يحاول أن يخرجني مني

حين نروح بعيدا

نحو سماء متشككة.

ثيمات

يعكس الديوان علاقة متجردة للروح تكشف الذات الكامنة وعلاقتها بالماديات المحيطة، حيث صعوبة الواقع وعجزه عن استيعاب الذات المؤرقة.

ويضم الديوان ثيمات امتاز بها شعر الشهاوي، في مقدمتها العلاقة بين الذات والعالم المحيط، وأيضا العشق الذي يبرز حضوره في دواوينه، بل إنه خصص له دواوين سابقة، منها: «ديوان العاشق». كما تظهر بقوة ثيمة النسيان في هذا الديوان «سماء باسمي» من خلال قصيدة ضمنه.

. كذلك ثيمة الموت والشك التي تحضر في شعره بصورة خاصة، عاكسة همه الشخصي بالبحث الدائم عن أرض جديدة تحتضن روحه وتحقق له الخلاص من الثقل المادي، وهو ما يترجم جوهره الفكري، والذي يعتبره النقاد أهم ثيمة تطويها دواوينه وكتاباته الشعرية.

«خذني إلى البحر»

تقدم التجربة الشعرية ـ بصورة عامة ـ تجربة خاصة يعيشها القارئ مع تصفح الديوان الشعري. ومع ديوان «سماء باسمي» يستغرق الشهاوي في ذاته التي تسعى لبلوغ السماء والتجرد. والقارئ للديوان يلحظ حضور البحر كعامل أساسي من الطبيعة فيه، من خلال أبيات، مثل:

خذني إلى البحر

امنحني شاطئاً سمه باسم عرشي

لأرتاح من تعب القاتلين.

ويقول النقاد في خصوص هذه الكتابات، إن أيقونة البحر تعكس الرؤية الواسعة ومحاولة تحرر العقل من الجمود، إذ يستقي الشهاوي من أمواج البحر المتعاقبة روحا جديدة تتجدد كما يجدد البحر نفسه بأمواجه المتغايرة بين ليلة وضحاها.

ويسترسل الشهاوي في نظرته الحداثية المنطبعة على صفحات ديوانه، فيقدم قصيدة تحمل التساؤل: «ما الأسود؟»، في إشارة إلى الظلام والنور والصراع الدائر بين الأسود والأبيض.

كما يعكس الشاعر الروح العالقة التي لا تجد لها مرسى، من خلال أبيات مثل:

مازال عاليا فيَّ كصاري سفينة مثقوبة

مقدر لها ألا تغرق وألا تعود.

13 كتاباً

جاءت الترجمة التركية للكتاب، في ضوء مشروع ترجمة 13 كتابا شعريا ونثريا لأحمد الشهاوي، وهي مجمل ما أصدره منذ عام 1988، ومنها «باب واحد ومنازل» و«أسوق الغمام» و«كتاب الموت» و«قل هي» و«ركعتان للعشق». وصدر الديوان مترجما عن دار نشر «دار قرمزي» في إسطنبول، وقدم الترجمة التركية الدكتور محمد حقي صوتشين أستاذ الأدب العربي في جامعة غازي في أنقرة.

 

Email