الكاتب السوري فواز حداد، شامي الهوى والتطلع، ولد في دمشق، ولكنه أتى إلى عالم الأدب من حيز القانون بعد أن حصل على إجازة فيه، بينما هو قديم الآصرة بالسرد عامة (كتب القصة القصيرة والمسرح والرواية)، إلا أنه من المقلين الذين التزموا جانب الروية والحذر في إطلاق العمل الأول، توخياً للتميز والجدة..
وانطلاقاً من مبدأ أن استعجال النشر لا يبرره إلا التلهف في طلب الشهرة أو ضعف الأمل إزاء تحقيق ما هو أفضل، ولذلك تأخر عمله الأول حتى صافح أعين القراء عام 1991م، وحينها استلفت الأنظار، وبدأ المشوار.. وفيه ومعه بقي ينحني للضحايا بين نار السرد وسيرورة الواقع.
«بيان الكتب» يلتقيه ليتعرف إلى أجوائه ورؤيته وأفكاره وآرائه.
عنوان روايتك «السوريون الأعداء» يُحيل القارئ إلى رواية «الأخوة الأعداء» التي كتبها نيكوس كازنتزاكيس. هل هذا مُتعمد أم جاء بمحض الصدفة؟
المتعمد ليس الإحالة إلى كازنتزاكيس، وإنما الى «الأخوة الأعداء»، وهو تعبير مشهور يجمع بين الأخوة والعداوة، دالاً إلى التناقض الجامع بينهما، كما حال السوريين، الذين فرّق بينهم الطغيان بدل أن يوحدهم ضده، فتخندقوا في ساحات على امتداد الوطن للتقاتل فيما بينهم، لا للدفاع عنه. تلك مأساتنا الكبرى، أفضل تشبيه لها: سوريا تنتحر.
السوريون ينتحرون بكل قسوة وفظاظة ووحشية. نجح النظام في اصطناع عداوات كابوسية متخيلة، تمت إلى التاريخ والماضي، يجري استثمارها من أجل المزيد من القتل لدعم وجوده.
نحن السوريين لا صفة أخرى لنا، والتعريف بنا على أساس هويات دينية ومذهبية، لهو تحريض على الاقتتال. المفارقة أن هذه الهويات لا تدعو إلى القتل. ثمة هويات أخرى تقبع خلفها، هي هويات التسلط والقمع والإذلال والتدمير والنهب.
الخاتمة الكبرى
تُغطي أحداث الرواية فترة زمنية تمتد ما بين 1982 تاريخ مجزرة حماة، و2011 موعد انطلاق شرارة الثورة السورية. ألا ترى أن الرواية تقف عند خاتمة مؤقتة بانتظار جلاء نتائج الثورة؟
نعم الخاتمة الكبرى لم تحل بعد. غير أن المؤقتة وافية بأغراض الرواية، من حيث الجواب على سؤال: لماذا الثورة؟ فهي لم تأت من فراغ، ولا من مؤامرة دولية أو كونية، اذا كان من متآمر فهو النظام.
الرواية تتعرض إلى آلياته طوال أكثر من أربعين عاماً. أنا لا أعد بأجزاء أخرى. لا يزال الحدث يتقدم، ولا يبشر بنهاية قريبة إلا بعد سنوات. ولا يمكن الكتابة عنه بشكل بانورامي إلا بعد مضي سنوات أخرى على انتهائه. في الرواية كما تلاحظين، كتبت عن حماة وما تلاها بعد مرور عقود.
مشهديات
مع بقاء الجرح السوري نازفاً، أنت لا تعد القارئ إذن بثنائية أو ثلاثية روائية ترتكز على الحدث السوري؟
هذا لا يعني التوقف والانتظار..من الممكن كتابة روايات تقتصر على مشهديات، لا بد منها. رواية ملحمية أو رواية أجيال، لا تحل محلها، تختزن الكثير من الدلالات النوعية الخاصة عن البشر والكراهية والقتل الأعمى والفقدان والتشرد في المخيمات، وبلدان النزوح والمهاجر والموت تحت التعذيب والغرق في البحر والموت بالجملة..
والافتقاد إلى الرحمة والخيانات خيانة السلطة للشعب، وخيانة الكثير من المثقفين لكل ما دعوا إليه وبشروا به، والتغرير بالأخوة، والتحريض على القتل..والحاجة إلى استعادة إنسانيتنا المهدورة والنسيج الاجتماعي الذي تهتك.
شهود
وماذا عن الذين رموا الرواية بتهم سياسية وطائفية ؟ هل هم أنفسهم انطلقوا في قراءتهم النقدية من موقف سياسي متحيز. وبمعنى آخر من موقف مُعادٍ للثورة ومؤيد للنظام؟
لا أريد المبالغة بمواقفهم ولا بتحيزهم. وإذا كنت ألومهم، فلأنهم كانوا مثلي شاهدين على ما يجري، شكوا من عسف النظام، وبنوا سمعتهم على مواقفهم النقدية.
عندما خرجت التظاهرات في أرجاء سوريا، أيقنوا أن ما كانوا يحلمون به تحقق، توقعوا سقوط النظام واتخذوا جانب الثورة. لكن النظام أطلق الجيش والأسلحة الثقيلة ضد الاحتجاجات، واستجار بحلفائه، فبدلوا مواقعهم، مع حفظ خط الرجعة، لم يحسبوا أنفسهم على النظام ولا على الثورة التي أصبحت فوضى، تعالوا على الطرفين، وأصبحت لديهم سردية زائفة تمكنهم من الانتقال بخفة من جهة إلى جهة.
هذه القفزات تحتاج إلى البراعة في التزوير والتشويه والذرائع الكاذبة والمتاجرة بالإنسانية والتعلل بفنية الرواية والاتهام الدارج بالطائفية، أي على الرواية ألا تقرب واقع الحال، فهذا من الممنوعات، وفي هذا انكشاف طائفيتهم المسعورة ومواقفهم الملتبسة، فلا هم مؤيدون ولا هم معارضون.
احترام الضحية
من يقرأ الرواية يلفته استغراقها في أدق تفصيلات الحدث بكل بشاعته ودمويته. أهي الرغبة في تصعيد الحدث الدرامي، أم ليبقى للتاريخ كلمته في النهاية كشاهد على المجزرة المستمرة في سوريا منذ أربعين سنة؟
أحياناً يجد الروائي نفسه أمام تفصيل مؤلم، لا يمكنه تجاهله ولا المرور عنه، وفي اغفاله خيانة للضحايا وللرواية معاً.
خصوصية
بعد وصولك في رواية سابقة إلى تصفيات جائزة بوكر العربية. هل يُخالجك الشعور أن «السوريون الأعداء» ستُعيدك الى الواجهة مُستفيداً من خصوصية الحدث السوري على الصعيد السياسي والإنساني؟
أصلاً لست في الواجهة، ولا أريد أن أكون هناك. أنا دائماً لم أسع إلى الجوائز. عادة الناشر هو من يحق له الترشيح، ولا يجوز مصادرة حقه هذا، الكتاب الفائز يرفع أرقام المبيعات. وأنا لست ضد أن يفوز الكاتب بجائزة. الكتابة هي التي تهمني، والضمير هو الذي يملي علي في ظل هذه الأوضاع، مدى حاجتي إلى الرواية.
كتابة موضوعها القتل والخوف والقهر والانتهاك
ليس أمام فواز حداد حيلة أخرى غير الكتابة، حصنه العنيد، منه يتخذ موقعاً ليكتب عن الإنسان، الرازح تحت حمل الخوف والقهر والتعذيب في المعتقلات وأقبية السجون. يدخل مع شخوصه عوالم ودهاليز، لا تفضي إلى مسرب أو ضوء، ينتهي بمن قذف بهم القدر إلى مفازاتها صورة نحتها الألم، يبدأ من تهاوي الأعصاب وسقوطها في الوهن والضعف ولا ينتهي بتردي الجسد وانحلاله.
أن يكتب ويكتب فتلك هي المسألة، ماذا يسع كاتب بحجم فواز حداد ان يفعل غير الكتابة ليدرأ عنه عذاباً طال أمده، لاحقه مثل سائر السوريين طوال عقود أربعة، هي الزمن الفاصل بين حكم الأب وحكم الابن.
هجوم وانتقادات
تبدو الرواية حدثا غير عادي، أثارت الكثير من الأسئلة. غالى البعض في تغليب السياسي على فنية العمل وذهب في ترجيحاته الى اعتبارها بيانا سياسيا، يوظف الكاتب كل مكبوتاته واحقاده انتقاما من النظام السوري، عبر كشف جرائمه وبشاعة ارتكاباته في حق الناس لتراوح الرواية عند هؤلاء في التقريرية المباشرة.
ما يضير الرواية أن تنطلق من حدث راهن مأزوم، طالما أن الروائي يتمتع بقدرة ومراس على توظيف الحدث وتطويعه في عملية السرد؟ ما جادت به قريحة حداد شحن الرواية بفيض من الأحداث عرف حبكها في بنية فنية. التشويق ثمة أساسية في سيرورة حركتها، وهذا ما يلحظه القارئ وهو يُقلب ما يُقارب الخمسمئة من صفحاتها.
شخوص
يتناوب على السرد شخوص ثلاثة. القاضي سليم الراجي الذي يمم شطر مدينة حماة، بعد المجزرة التي اودت بحياة الآلاف من أهلها. قصد المدينة ليطمئن على افراد عائلته وقد هالته أصوات الانفجارات التي كانت تتناهى الى سمعه ورؤيته اعمدة الدخان تتصاعد في الفضاء، ليلتقي بامرأة بين يديها تحمل لفافة قماش تخفي رضيعا صغيرا، لم يكن إلا ابن اخيه الطبيب عدنان، الذي سيشغل حيزاً واسعاً من مساحة السرد.
عدنان عينة من السوريين الذين واجهوا التنكيل والقهر والظلم. وُجد في مكان مشبوه. وهذا كفيل بأن تُسطر بحقه أحكام هوائية، يُجرم ويساق إلى حقل الرمي ليرأف به أحد الجنود الذين لا حول لهم ولا قوة. عرفه كطبيب أدى له خدمة، لم تنسه الأيام جلالتها، فيعمل على إنقاذه من الموت.
تبدأ جلجلة الطبيب بعمليات القتل المتعمد لأفراد عائلته رمياً بالرصاص وبجعله هدفاً يومياً، يصوّبون عليه، ليمضي شطراً من أيامه السوداء رهين زنازين الاعتقال والتعذيب.
سليمان الشخصية الثالثة في الرواية، منح لقب مهندس تقديراً لخدماته الجليلة التي أداها للنظام فألحق بالقصر الجمهوري. شاءها الراوي أن تكون الأداة التي عبرها ينفذ مجازره، لتغدو صورة عن رجاله الذين تستهويهم شهوة التعذيب والدم والقتل وأعمال الإبادة الجماعية.
توصيف بانورامي
رمزية الأشخاص تنقل إلى القارئ توصيفاً بانورامياً لسورية الأسد، وتحديداً في الفترة الممتدة بين مجزرة حماة 1982 وأحداث الثورة السورية 2011 والمستمرة الى الآن. وعبر توالي السرد تتكشف الفظائع والارتكابات المذلة وعمليات التصفية ومآسي المعتقلين في السجون. بالتوازي مع المجتهدين من أزلام النظام، الذين يعملون على تلميع صورته وتأليه سيده.
ومن الجانب الآخر تفتر أحداث الرواية عن أفراد مقهورين، يُحاولون بما وسعهم من حكمة وجلد ودراية إدانة تصرفات النظام.
سيرة
فواز حداد. كاتب سوري من مواليد دمشق، حائز على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، كتب القصة القصيرة والمسرح والرواية. لم ينشر أياً منها الى سنة 1991م شارك كمحكم في مسابقة حنا مينة للرواية، ومسابقة المزرعة للرواية في السويداء.
كذلك في الإعداد لموسوعة (رواية اسمها سورية). تفرغ للعمل الروائي كلية في عام 1998، رشح للفوز بـ: جائزة الرواية العربية (بوكر)- القائمة القصيرة لعام 2009، جائزة روكرت الألمانية لعام 2013 عن رواية (جنود الله) وذلك مع ثلاثة كتّاب سوريين آخرين: نهاد سيريس وسمر يزك وروزا ياسين حسن.