روايته «العملاق المدفون» تنتمي إلى عوالم الخيال

كازو إيشيغورو: مفتون بخيارات الفرد الأخلاقية

ت + ت - الحجم الطبيعي

 هناك تحول ملحوظ نحو القصص الخيالية في أحدث روايات الكاتب البريطاني، الياباني الأصل، كازو إيشيغورو، بعنوان «العملاق المدفون»، حيث مخلوقات كالتنين والغيلان والجنيات، تهيم في البراري المكفهرة لإنجلترا في العصور الأولى.

والروائي يعترف بأن هذا التحول استغرق منه وقتاً طويلاً للتحكم بعوالم الرواية وابتداع شخصياتها، وذلك بقرابة ما يصل إلى نحو عقد من الزمن، لكن يبقى موضوعها مع ذلك هو نفسه، وكما يؤكد، افتنانه بقضايا الماضي والنسيان والذاكرة وخيارات الفرد الأخلاقية.

وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة «غارديان» البريطانية، قال إيشيغورو إنه كان يرغب لفترة طويلة بابتداع رواية عن رجل يسير هائماً على وجهه مع فرسه..

وكان نموذجه شخصيات أفلام الغرب الأميركي التي كان يحبها، حيث يبدو الرجل وفرسه كـ «مجتمع صغير مكتف بذاته، مجتمع وحيد متنقل من مكان إلى آخر». والفكرة تكمن في ابتداع «رجل ينتمي إلى عالم أكثر عنفاً، رجل يحتاج إليه أناس مسالمون عندما يكون هناك حاجة للعنف، لكن غير مرحب به في مجتمع مسالم».

خيار

لكن إيشيغورو لم يكن يرغب في أن يكون موقع هذا المسافر الوحيد في الغرب الأميركي. وبدلاً من ذلك، تنقلنا روايته إلى بريطانيا بعد رحيل الرومان، وسيطرة الانغلو- ساكسون الكامل على الجزيرة، بعبارات أخرى لحظة «تشكيل إنجلترا»، حيث يستحضر النظرية التي تفيد أن أمواجاً من المهاجرين الانجلو ساكسون ارتكبوا مجزرة بحق سكان بريطانيا الأصليين.

أما الفارس، فهو أصغر فرسان الملك آرثر، الشخصية الخيالية وأسطورة الفروسية والشاعرية، سير غواين، الذي أصبح، حالياً، رجلاً موغلاً في السن، يستجيب للنداء الأخير، ويصفه إيشيغورو على النحو التالي:

«مرتدياً درعاً حديدية صدئة، بينما امتطى فرساً مجهدة». فإن «مهمته المقدسة» تكمن في ذبح التنين «موريج». والغموض بشأن ما حدث في بريطانيا في تلك الفترة من التاريخ، هو ما جذب ايشيغورو للموضوع.

يقول إيشيغورو إنه بعد تأليف نحو 80 صفحة، قالت له زوجته لورنا: «يتعين عليك أن تبدأ من جديد، فاللغة غير سليمة على الإطلاق». وهو يعترف بأنها كانت «لحظة رهيبة»، لكنه في العادة لا يصاب «بالذعر»، إذ سبق أن كتب روايته «لا تدعني أذهب أبداً» مرتين من قبل.

كائنات

وكان يبحث عن مادة حول المجتمعات والأحداث التاريخية، لكنه لم يكن يريد أن يبدو «مهتماً بشكل خاص بأزمة معينة في التاريخ»، لذا كان يحاول العثور على شيء خيالي. والكائنات، مثل الغيلان والجنيات والفرسان، وفرت حلاً لجزء من مشكلته، لكنه لم يكن يريد الذهاب إلى أبعد من ما يجب في ذلك..

ويقول إنه إذا كان من الممكن تصور أن سكان ذلك العصر لديهم تلك الخرافات والمعتقدات، فإنني سأسمح بها، لكن لن أسمح بصحن طائر يظهر فجأة في السماء. كان يريد الوصول إلى خاتمة الرواية بخطوات منطقية، وإن بدت للقارئ غريبة في النهاية.

«الغرائبية».

وايشيغورو يتحدث عن الثقافة المزدوجة لتنشئته_اليابانية-البريطانية): «من الصعب جداً بالنسبة لي، تمييز مدى التأثير الياباني الذي ورثته طبيعياً، وإلى أي مدى صنعت هذا التأثير لنفسي فعلًا، لأنني شعرت بأنه ينبغي عليّ ذلك».

تعلق

انتقل إلى بريطانيا في الخامسة من عمره، وكان لا يزال يتلقى كتباً فكاهية ملونة من جده باليابان، لكنه تعلق بشخصية شرلوك هولمز، حتى ألف قصص المباحث الخاصة به.

ورواياته لم تحصر نفسها بتلك الخلفية اليابانية. فالثالثة «بقايا النهار» الحائزة على " مان بوكر"، تدور أحداثها حول إنجلترا بين الحربين العالميتين، وعن شخصية كبير خدم مقموع عاطفياً يدعى «ستيفنز» يتأمل في سنوات خدمته العمياء في منزل اللورد دارلينغتون المؤيد لألمانيا.

وكتب إيشيغورو بعدها روايات من نوع المنامات والأحلام، وروايته الأحدث «العملاق المدفون»، رحلة محاطة بضباب يجعل الناس ينسون ذكرياتهم. وسبق أن ركز في كتاباته على صراع الأفراد مع ذكرياتهم الأليمة. وطلب منه منذ عقد تولي رئاسة جلسة نقاش في المنتدى الاقتصادي العالمي، واستقر على موضوع كان يشغله كثيراً: كيف تتذكر المجتمعات وتنسى؟

ويتساءل عما إذا كان سينتهي به المطاف فاشياً لو ولد قبل جيل؟ فيعلق: «لأنه ليس للمرء تصور استثنائي للعالم، ولا يمكنه إلا أن يكون جزءًا من المجتمع الذي يعيش فيه، فإنه يوظف كل مواهبه في شيء يتوصل لاحقاً إلى الاعتقاد بأنه لم يكن ينبغي عليه أن يفعل ذلك». ويضيف: «إنها مرثاة، ليس فقط للأرواح التي أهدرت، لكن أيضاً لتلك المضللة في الجوهر».

رحلة بحث أليمة في الماضي البريطاني

الرواية الأحدث للكاتب كازو إيشيغورو بعنوان «العملاق المدفون»، هي عبارة عن حكاية خرافية، تدور أحداثها في الماضي الأسطوري لبريطانيا، وسط عالم خطير قاتم مخيف وغامض، بعد سنوات من وفاة الملك آرثر. كان الرومان غادروا البلاد منذ فترة طويلة، وبريطانيا غارقة في الفوضى، فيما الضباب يهيمن على الريف ويسرق الذاكرة الجماعية للسكان.

رمادي شاحب

وعلى عكس أرض الفرسان والقلاع والأبهة والأحصنة والرايات المرفرفة، فإن المكان رمادي شاحب ومليء بالخرافات، حيث يقوم الأهالي بتخزين الشموع ويلتفون على بعضهم، طلباً للأمان على امتداد مساحات شاسعة من البراري غير المروضة. وفيما يكدح الفلاحون البريطانيون انطلاقاً من كهوف محفورة في جانب التلال، فإن الغزاة الجدد من الساكسون يعيشون في قرى أكثر تطوراً من أكواخ بدائية.

وضباب غريب يرفرف فوق الريف، حيث نتعرف إلى عجوزين : أكسل وبياتريس، اتخذا قراراً يقضي بمغادرة قريتهما الصغيرة الأشبه بجحر الأرنب، وذلك في رحلة عبر الأرض المضطربة، بحثاً عن ولدهما الذي ذكرياتهما عنه تتلاشى.

صور

تستهل الرواية بنغمة خافتة، عندما يتذكر إكسل صوراً تتخللها رؤية لامرأة شعرها أحمر متدفق، وهذا الحلم قد يكون حقيقياً، لكن أكسل لا يجرؤ على سؤال جيرانه، «لأن في هذا المجتمع، نادراً ما تجري مناقشة الماضي».

وفي رحلة البحث عن أجوبة، يواجه إكسل وزوجته بياتريس، عقبات كثيرة، حيث يصادفان غيلاناً وجنيات، وفي أحد القرى يقابلان المحارب الشجاع وستان، والفتى اليافع أدوين، ويجدان نفسيهما برفقة الفارس سير غواين، أحد فرسان الملك آرثر.

ويتضح بعد ذلك أن سعيهما الحقيقي هو داخلي، يمثل جهداً شاقاً لمعرفة نفسيهما، حيث ستكشف لهما الرحلة عن زوايا قاتمة ومنسية من حبهما. وسيدرك الزوجان سريعاً أن سعيهما لإيجاد ولدهما تواجهه مهمة أكثر إلحاحاً، تتمثل بالتخلص من الضباب وقتل التنين.

لكنهما فيما يتقدمان عبر السهول المنيعة والأنفاق غير المرئية والقلاع الرهيبة محاطين بالأشرار، نبدأ في تلمس واقع أن النسيان الجماعي ليس سيئاً كما كان يعتقد، إذ جرى ارتكاب أخطاء رهيبة في الماضي تتطلب النسيان من أجل استمرار المجتمع المتهاوي.

وعلى الرغم من أن الرواية مختلفة بشكل كبير عن قصصه السابقة، إلا أن موضوعاتها متشابهة، في تناولها لـ »الذكريات المنسية والحب والانتقام والحرب».

«لا تصلح»

وعندما بدأ إيشيغورو بكتابتها للمرة الأولى، ظن أنه يقوم بذلك بشكل صحيح، ثم عرضها على زوجته، فقالت له: «إنها لا تصلح، ويتعين عليك أن تعيد كتابتها». واستغرق الأمر منه وقتاً طويلًا، ليبدأ مجدداً من الصفر. ويقول إن انتقاد زوجته لم يكن لمشاهد معينة، بل موجه إلى اللغة بأكملها والطريقة التي تتحاور بها الشخصيات.

شغله الشاغل يكمن في معرفة من يتحكم بذكريات المجتمع، ومن يعبئ هذه الذكريات، وفي خدمة أي أهداف. ويعتقد بأن الأدب والمتاحف والكتب المدرسية الرسمية تلعب دوراً، إلا أن الأمر في النهاية يعود إلى ما يسكن أذهان الناس العاديين بشأن ما حصل في بلادهم.

وايشيغورو يشير إلى مثال اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية: «ألغت اليابان كدولة، واقع أنها كانت معتدية في الحرب العالمية الثانية» كما يشير إلى مثال فرنسا في عهد فيشي، وتفسير الفرنسيين لتاريخهم أثناء الحرب، وكذا إلى مثال يوغوسلافيا، وغيرهما.

بطاقة

ولد كازو إيشيغورو في ناكازاكي باليابان عام 1954. ووالدته هي من الناجين من القنبلة الذرية. انتقلت عائلته إلى بريطانيا عندما أصبح في الخامسة من عمره.

وهو حاصل على ماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة «أيست انغيلا» عام 1978. ألف ست روايات حازت كلها على جوائز، ومنها: منظر شاحب للتلال ( 1982)، فنان العالم العائم (1986)، بقايا النهار (1989) - حازت على جائزة مان بوكر. وذلك إلى جانب مجموعة قصص عن مقطوعات موسيقية «ليليات» (2009). وحول بعض رواياته أفلاما سينمائية.

ترشح لجائزة مان بوكر أربع مرات، وترجمت كتبه إلى أكثر من 40 لغة.

Email