تتبدى ميزة رئيسة في كتاب «الطائرة الخامسة .. أوراق إرهابي فاتته رحلة أفغانستان»، للإعلامي والكاتب السعودي محمد العمر، الصادر عن دار مدارك للنشر، اخيرا، جوهرها، عملية التوثيق الفكري للبعد الاجتماعي والايديولوجي في العالم العربي، تحديداً منطقة الخليج. إذ يطرح الكتاب، الذي عدّ من أكثر 10 كتب مبيعاً في معرض أبوظبي للكتاب بدورته الأخيرة، جملة محاور وتساؤلات حول استغلال الجماعات الدينية المتشددة، طموحات الشباب بطرق غير مشروعة،

يؤكد العمر، في لقائه مع ملحق «الكتب»، أهمية الحوار مع الاخر المختلف، كأساس للانسجام وقبوله، مبينا أن منتجه الفكري هذا، يعنى ببحث البنية المجتمعية التي تلعب دوراً رئيسياً في تشكيل المنهج الصحي للحوار، الذي يؤسس منطق الأنا والآخر في وئام وانسجام.

البدايات

يحكي محمد العمر في سرده تفاصيل قصته وكتابه لملحق «الكتب»، جملة حيثيات، في قالب لغة سلسة وبسيطة، تجمع بين المعلومات التاريخية والأحداث الشخصية والتفاصيل الإنسانية. فمحمد العمر، ذاك الطفل الذي عاش في بيئة محافظة ضمن المجتمع السعودي، كان يرى في قيادة الدراجة الهوائية، فسحة أمل.

وشكلت له المزرعة المنزلية متسع أكبر للحرية. ومن ما يذكر في كتابه، في الخصوص، بعض المسميات الحميمة لموقع الأحداث، سواء في منطقة التي يقع فيها منزلهم في مدينة «الزلفي»، أو عن تلك اللقاءات في المراكز الصيفية المعنية بتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم قضايا الشريعة، وذلك وصولاً إلى فكرة ذهابه إلى افغانستان. ومن ثم تعلقه بوهم تحقيق النصر المنشود.

أين تصنف فعل التدوين في (الطائرة الخامسة)، ذلك طبقا لطبيعة موضوعاته، والتي تعالج قضية ساخنة؟ وماذا عن كتابتك في خصوص موضوع التطرف، ذلك بينما تسرد حكايات شخصيات لها اعتبارات فكرية خاصة في المناخ السياسي والديني العام، وكذا تخوض مرحلة التنفيس عبر القلم.. وكأنك تعيد اكتشاف ذاتك؟

يعالج الكتاب مرحلة حساسة في حياة مراهق تسهل أدلجته غاية أن يتبنى الفكر المتطرف المعتمد على تأجيج العاطفة، تحت شعار: «الطريق الحق»، وبهدف نيل مراتب دينية أواجتماعية موهومة. ولا شك أن نجوم تلك التيارات المتطرفة، يبدون في الآونة الأخيرة، متلونين بأشكال محددة، بما يسميه البعض منهم بـ «التنوير»، وآخرون بـ «بتمييع الدين».

وما تعمدته في كتابي، تحليل رؤيتهم لأبرز ما تتضمنه تلك الأوراق التوثيقية..أنا لست ضد أحد، والمسألة لدي ليست شخصية. لكن، لا أقبل من شخصيات غير متزنة أن تدعي النصح والإرشاد، أو أن تتبجح بتملكها سبل المواطنة الصالحة، بينما الحقيقة أنها لا تمثل ذلك في الأساس.

بذور وأصل

مسألة التحول إلى الاعتدال، لها تفسيرات عديدة، برزت في المرحلة الأولى من عمرك، يلاحظها القارئ من خلال تساؤلات عديدة تبديها أثناء حديثك مع أقرانك في الكتاب، وأن هناك بوادر أو بذور شخصية مسالمة لديك. فهل يقدم هذا مبررا لفكرة رجوعك الى الاعتدال خلال ثلاثة أيام قضيتها خارج السعودية، بعد جاهزيتك حاليا، للذهاب إلى أفغانستان؟

تسهم مسألة السن الصغيرة وقلة الوعي، في سهولة إحداث التحولات الفكرية، إذ كنت أثناء قراري في الاعتدال في بداية العشرينيات من العمر، وكان ذلك بسبب أستاذ لي اسمه حمدان، درسني في المعهد العالي، وأقنعني بمعاملته التي اختلفت عن المعاملة القاسية والجافة للجماعة السابقة.

واحتساب ثلاثة أيام للعودة إلى الطريق المعتدل قياساً بـتسع سنوات من التهيج والتراكم للتطرق، ربما لا يكون مقنعاً بشكل موضوعي للقارئ، ولكني في الحقيقية اخترت في الكتاب اختزال العديد من التفاصيل لأني رأيت فيها تكراراً للأحداث.

وسيلة نوعية

الأشرطة التسجيلية كانت المسوق الإعلامي الأبرز لتلك التوجهات، كما تشير في طرح ضمن كتابك، وتركز أكثر على التي تتضمن محاضرات دينية طرحت معها آراء ترى أن التلفزيون ومشاهدته يمثل جرماً دينياً، إلى جانب تغذيها على الأزمات العربية والإسلامية واستثمارها تأجيج الصراع الداخلي.. كيف تفسر طرحك في هذا الصدد؟

لا نحتاج كبير عناء في تشريحنا لجوهر هذه الجوانب، لتبين حقيقة واحدة: امتطاء الدين لأجل وهدف السياسة، ومن ثم استثماره في خطابات التطرف. فذاك خيط سياسي بالدرجة الأولى، وأنا شخصياً، ونتيجة تلك الأشرطة ذقت المرارة، وجميع هذه الافرازات مردها انحصار الإعلام المحلي في ثمانينيات القرن الماضي، على المسموع فقط. فتخيلوا خطبة الجمعة بعد انتهاء إلقائها في إحدى المدن السعودية. إذ تجدها في اليوم التالي حاضرة لدى هؤلاء في كل أرجاء المملكة، تدعيماً لذلك الفكر وضماناً لاستمرارية تسويقه.

فهو المصدر الأول لسلطتهم المجتمعية والفكرية. وبالنسبة للتغذية على الأزمات. فذاك تكتيك أصحاب تيارات التعصب، الذين يتخذون من قضايا الفساد، على سبيل المثال، فرصة لخلخلة المناخ العام الهادف إلى فرز صراع بين المحكوم والحاكم.

دروس

حمدت الله على هذه المرحلة رغم تبعاتها وانكساراتها.. ما قيمتها فعلياً، في رسم طموحاتك المستقبلية؟

حقاً. إني أحمد الله دائماً، لأن المرحلة تلك، جعلت مني قارئا حذقا وباحثا متعمقا في شأن وحول أهم الحركات والتيارات الدينية والمجتمعية المختلفة. وأقولها بصراحة:

لولا تلك المرحلة بإرهاصاتها، لما كنت كما أنا اليوم، أمتلك التحصين العلمي ومفاتيح القراءة والتحليل الصحيح، من معين ومضامين أمهات الكتب. وبالتالي تصعب أدلجتي بسرعة، وبالنسبة للطموح والشباب، أود أن أشيد هنا بقيادة دولة الإمارات، لإتاحتها فرصا جدية للشباب، للمساهمة في التنمية والتطور.

تجربة «يوتيوب»

 يقدم الإعلامي السعودي محمد العمر، برنامجاً خاصاً به، على موقع يوتيوب، ضمن «بودكاست العربية» بعنوان: (كيف). وهو (العنوان)، يعكس روحية التساؤل الفعلي بشأن الدور الجديد الذي يريد العمر أن يؤديه في المرحلة القادمة. ويحكي عن هذا: «بالنسبة لـ"يوتيوب" وبرنامجي فيه. فأنا أسعى إلى تطوير البرنامج أو على الأقل تمثيل طرح إعلامي نوعي مختلف عنه.

ولكن يوازيه في مفهوم التفاعل الاجتماعي، والسبب يرجع إلى أن الناس اعتادوا رؤيتي وأنا أعمل في مجال الطرح الجاد، من دون استشفافهم أن هناك جانبا آخر، فكاهيا، لكل شخص، إذ سعيت أنا إلى إظهاره عبر "يوتيوب". وأود التأكيد هنا، أن دخول المجال حفزه شغفي بالتمثيل المسرحي الذي ابتعدت عنه بسبب تجربتي السابقة».

فوات «رحلة أفغانستان» وارتسام خط الرجعة

 يضم فهرس كتاب «الطائرة الخامسة ــ أوراق ارهابي فاتته رحلة أفغانستان»، عدة أبواب، أبرزها: أشباح المدينة.. واقع أم خيال، على سفح (النفود)، كل شيء حرام، اعتناق المذهب التكفيري، التضييق على العائلة، التدريب على الأسلحة، فوات الرحلة.

يهدي محمد العمر كتابه، إلى والديه. ويقول في إهدائه إلى أمه: إلى امرأة تعبت وصبرت وتجلت أيامها بين الأرق والقهر. إلى سيدة حبست بين أضلعها أنين الألم وخوف الزمن. إلى أنثى كتمت صوتها وهي تنتظر الفرج يخرج من الفجر. إليك يا من أخفيت عنك مذهبي وأظهرت لك تشدقي. أُقبِّل قدميك وأطلب عفوك لأني أخفيت عنك تطرفي 20 صيفاً. إنها أنت.. أمي».

كما يسجل العمر في إهدائه لأبيه: «إلى رجل خذلته في صبايي وشبابي.. وندمت. إلى سيدٍ أرادني أسطورة.. فأصبحت حينها أُلعوبة، إلى عظيم في رؤيته للدنيا.. فلم أنهل منها، إلى حكيم رأيته يجهل شبابي وأدبرت عن بصيرته، أُقبل جبينك لأني لم أكن كما تريد آنذاك.. ولعلي أعوض الآن ما فات.. إليك أبي».

الفطرة السليمة

يجمع الكتاب، مجموعة وافرة من النقاشات والموضوعات والرؤى التي يقدمها مؤلفه، حول موضوعة التشدد الديني وإفرازاته. ومن بين الأطروحات التي يقدمها الكاتب، نختار بعض الحوارات وتفاصيل القصص، ذات البعد الاجتماعي والنفسي لشخصية العمر، التي توحي بالفطرة السليمة والمتزنة، وبكونه من معدن نبيل صاف، ومن تربة خصبة، لا تتقبل الرتوش الإقصائية أوالمناهج التعصبية. وتلحظ في مضمون الكتاب، تركيزه على السؤال والنقد والقبول بالاختلاف. ومن إحدى النصوص:

«خلال التسكع في الأحياء المجاورة مر (محمد) بجانب منزل صديقه في المدرسة (أيوب) الذي يجلس على عتبة الباب، فدعاه (أيوب) لدخول المنزل وتجول به في أرجائه. وجد (محمد) كل شيء مختلفاً، فالحياة غريبة وهدوء لم يعتد عليه رغم أن منزل عائلة (أيوب) عامر بالأهل:

محمد: أيوب (وين التلفزيون)؟!.

أيوب: حرااام.

محمد: ليش حرام؟

أيوب: لأن في أغاني ومسلسلات وأفلام وحريم سافرات.

سكت محمد لبرهة، فلأول مرة يسمع تلك الأحكام على التلفاز.

محمد: (إيش بعد حرام).

أيوب: (الصور) و(الجرايد) و(المجلات).

صُرع عقل (محمد) بما شاهد وسمع واستأذن صديقه متعذراً باحتمال رجوع والده مبكراً. وأخذ (دراجته) وعاد إلى بيتهم وهو يعيد ما قاله ( أيوب) بطريقة الاستهزاء: حرام حرام حرام».