اكتشف باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بقايا نادرة من مادة الأرض البدائية نجت من الاصطدام الهائل الذي نتج عنه الأرض الحديثة، كاشفةً عن لمحة عن أقدم تاريخ كوكبنا.

منذ مليارات السنين، كان النظام الشمسي المبكر عبارة عن قرص دوامي من الغاز والغبار، والذي تكتل في نهاية المطاف وتراكم لتكوين النيازك الأولى، والتي اندمجت بدورها لتكوين الأرض الأولية والكواكب المجاورة لها.

في هذه المرحلة المبكرة، كانت الأرض على الأرجح صخريةً تعجّ بالحمم البركانية، ثم، بعد أقل من 100 مليون سنة، اصطدم نيزك بحجم المريخ بالكوكب الوليد في حدث "اصطدام هائل" فريد من نوعه، أدى إلى تفكك وانصهار باطن الكوكب بالكامل، وإعادة ضبط تركيبه الكيميائي.

نتائج تقلب الاعتقاد السائد

ويُعتقد أن المادة الأصلية التي تكوّنت منها الأرض البدائية قد تحوّلت تماماً، لكن نتائج فريق معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تشير إلى خلاف ذلك، فقد حدد الباحثون بصمة كيميائية في الصخور القديمة فريدة من نوعها مقارنةً بمعظم المواد الأخرى الموجودة على الأرض اليوم.

تتمثل هذه البصمة في اختلال دقيق في نظائر البوتاسيوم، اكتُشف في عينات من صخور قديمة جدًا وعميقة للغاية.

وقد خلص الفريق إلى أن اختلال البوتاسيوم هذا لا يمكن أن يكون ناتجاً عن أي اصطدامات كبيرة سابقة أو عمليات جيولوجية تحدث على الأرض حالياً.

تفسير منطقي

التفسير الأكثر احتمالا للتركيب الكيميائي للعينات هو أنها يجب أن تكون مادة متبقية من الأرض البدائية والتي ظلت بطريقة ما دون تغيير، حتى مع اصطدام معظم الكوكب المبكر وتحوله.

تقول نيكول ني، الأستاذة المساعدة في قسم التطوير المهني لعلوم الأرض والكواكب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT): "ربما يكون هذا أول دليل مباشر على أننا حافظنا على مواد الأرض البدائية".

وتضيف: "نرى قطعة من الأرض القديمة جداً، حتى قبل الاصطدام العملاق.

هذا أمرٌ مذهل لأننا كنا نتوقع أن تُمحى هذه العلامة المبكرة تدريجيًا مع تطور الأرض".

شذوذ غريب يظهر

في عام 2023، حللت ني وزملاؤها العديد من النيازك الرئيسية التي جُمعت من مواقع حول العالم ودُرست بعناية.

قبل اصطدامها بالأرض، يُرجَّح أن هذه النيازك تشكّلت في أوقات ومواقع مختلفة في جميع أنحاء النظام الشمسي، وبالتالي تُمثّل ظروف النظام الشمسي المتغيرة مع مرور الوقت.

عندما قارن الباحثون التركيب الكيميائي لعينات هذه النيازك بالأرض، اكتشفوا بينها "شذوذاً نظيرياً للبوتاسيوم".

النظائر هي أشكال مختلفة قليلاً من عنصر ما، لها نفس عدد البروتونات، ولكن تختلف في عدد النيوترونات. يمكن لعنصر البوتاسيوم أن يوجد في أحد ثلاثة نظائر طبيعية، بأعداد كتلة (بروتونات ونيوترونات) 39 و40 و41 على التوالي.

أينما وُجد البوتاسيوم على الأرض، فإنه يوجد في تركيبة مميزة من النظائر، حيث يغلب البوتاسيوم-39 والبوتاسيوم-41 بشكل كبير، أما البوتاسيوم-40، فيوجد بنسبة ضئيلة للغاية مقارنةً به.

اكتشفت ني وزملاؤها أن النيازك التي درسوها أظهرت توازنات في نظائر البوتاسيوم تختلف عن معظم المواد على الأرض.

وتشير هذه الشذوذات في البوتاسيوم إلى أن أي مادة تُظهر شذوذاً مشابهاً يعود تاريخها على الأرجح إلى ما قبل تكوين الأرض الحالي.

بعبارة أخرى، يُعد أي اختلال في توازن البوتاسيوم دليلاً قوياً على وجود مواد من الأرض البدائية، قبل أن يُعيد الاصطدام العملاق ضبط تركيبها الكيميائي.

أسرار الكيمياء العميقة للأرض

تضمنت عيناتهم صخوراً مسحوقة من جرينلاند وكندا، حيث عُثر على بعض أقدم الصخور المحفوظة. كما حللوا رواسب الحمم البركانية التي جُمعت من هاواي، حيث كشفت البراكين عن بعض أقدم وأعمق مواد الأرض من الوشاح .

محاكاة الماضي الناري للأرض

استخدم الفريق بيانات تركيبية من جميع النيازك المعروفة، وأجرى عمليات محاكاة لكيفية تغير نقص البوتاسيوم-40 في العينات بعد اصطدامها بهذه النيازك والاصطدام العملاق.

كما حاكوا العمليات الجيولوجية التي شهدتها الأرض بمرور الوقت، مثل تسخين واختلاط الوشاح.

في النهاية، أنتجت عمليات المحاكاة تركيبة تحتوي على نسبة أعلى قليلاً من البوتاسيوم-40 مقارنةً بالعينات المأخوذة من كندا وغرينلاند وهاواي.

والأهم من ذلك، أن التركيبات المحاكية تطابقت مع تركيبات معظم المواد الحديثة.

تشير الدراسة إلى أن المواد التي تعاني من نقص البوتاسيوم 40 هي على الأرجح المواد الأصلية المتبقية من الأرض البدائية.

لغز النيازك المفقودة

من الغريب أن بصمة العينات لا تتطابق تماماً مع أي نيزك آخر في مجموعات الجيولوجيين، فبينما أظهرت النيازك في أعمال الفريق السابقة شذوذاً في البوتاسيوم، إلا أنها لا تُمثل بالضبط النقص المُلاحظ في عينات الأرض البدائية، وهذا يعني أن النيازك والمواد التي شكلت الأرض البدائية لم تُكتشف بعد.