على أعتاب حرب عالمية وشيكة، ولدت آلةٌ جمعت بين نيران الدمار وعبقرية المستقبل. إنها قصة طائرة بوينغ بي-29 سوبر فورتريس، القاذفة الأغلى والأكثر تطوراً في الحرب العالمية الثانية، التي لم تكتفِ بتغيير موازين الصراع، بل أعادت تشكيل مسار الطيران الحديث إلى الأبد.

لم تكن طائرة بي-29 مجرد آلة حرب، بل كانت إنجازًا صناعيًا تجاوز في تعقيده وتكلفته كل ما سبقه، ففي يناير 1940، انطلقت بوينغ في مشروعها الطموح بعد أن تخلت عنه شركات عملاقة مثل دوغلاس ولوكهيد، لتصنع قفزة هائلة في تكنولوجيا الطيران.

كان هذا المشروع، الذي استغرق أربع سنوات، أغلى مشروع صناعي أمريكي على الإطلاق حتى ذلك الحين، إذ تجاوزت تكلفته مشروع مانهاتن الشهير بنحو 50%. وبحسابات اليوم، فإن تكلفة تصميمها وتصنيعها تعادل 55.6 مليار دولار.

قفزة إلى حافة الفضاء

كان التحدي الأكبر يكمن في تحويل السماء الباردة القاتلة إلى بيئة صالحة للبقاء. ففي الارتفاعات التي كان على الطاقم التحليق بها (تصل إلى 30 ألف قدم)، كان الهواء المتجمد يهدد بحياة الأفراد الذين كانوا يرتدون بدلات ثقيلة ويتنفسون الأكسجين من أقنعة.

تقول هاتي هيرن، أمينة المتحف الأمريكي للقوات الجوية: "في غضون دقيقتين دون أكسجين، تفقد الوعي".

هنا، قدمت طائرة بي-29 حلًا ثوريًا: ضغط المقصورة. هذه التقنية، التي كانت تجريبية وقتها، سمحت للطاقم بالعمل في بيئة مريحة ودافئة، دون الحاجة إلى أقنعة أو بدلات ضخمة.

ولم يتوقف الابتكار عند هذا الحد، فسرعة المقاتلات المهاجمة دفعت المصممين إلى ابتكار أبراج مدافع يتم التحكم فيها عن بعد، نظام دفاعي فريد من نوعه يمنح الرماة دقة خارقة من داخل المقصورة.

لم يكن طريق بي-29 نحو الخدمة مفروشًا بالورود، فقد عانت محركاتها القوية من طراز R-3350 Duplex Cyclone من مشاكل متكررة أدت إلى حوادث مأساوية، مثل تحطم النموذج الثاني الذي أودى بحياة 11 فردًا من الطاقم.

كما أن عملية الإنتاج في المصانع الأربعة العملاقة في الولايات المتحدة واجهت فوضى عارمة، حيث لم يكن سوى 20% من الطائرات "المنتهية" صالحًا للطيران، بسبب عيوب في الأسلاك الكهربائية التي تمتد لـ16 كيلومترًا والنوافذ المشوهة.

وفي مواجهة هذا الوضع الكارثي، أمر الجنرال هاب أرنولد بشن ما عُرف بـمعركة" كانساس". في هذه الملحمة الصناعية، تم تفكيك الطائرات وإعادة بنائها، وإصلاح 568 ألف مقبس كهربائي، حتى أصبحت جاهزة للقتال. وبعد خمسة أسابيع فقط من العمل الشاق، أقلعت أولى طائرات بي-29 لتكتب الفصل الأخير من الحرب.

استُخدمت بي-29 في المحيط الهادئ فقط، وألقت القنابل الحارقة على المدن اليابانية، حيث يُعتقد أن غارة واحدة على طوكيو في مارس 1945 قتلت 100 ألف شخص. وبالطبع، كانت هذه الطائرة هي من أسقط القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي.

لكن بعد الحرب، كشفت بي-29 عن وجهها الآخر. فخبرتها في الطيران لم تُستخدم فقط في مهام قاذفة أو ناقلة وقود جوي، بل شكلت الأساس لجيل كامل من الطائرات المدنية الحديثة.

فقد أصبحت هذه الطائرة التي كانت تعمل بالمراوح، وتتميز بجناحها الطويل ونظامها الهيدروليكي، حجر الزاوية الذي أدى إلى طفرة الطيران المدني في الخمسينيات.

وقد بُنيت على أساسها أولى طائرات بوينغ الضخمة للركاب مثل 377 Stratocruiser، والتي كانت قادرة على حمل 100 راكب. كما أن مدارجها الطويلة التي تصل إلى 1.6 كيلومتر أصبحت الأساس لشبكة المطارات العالمية التي تربط العالم اليوم.

ولتبقى قصتها خالدة، تم نقل طائرة "إتز هوغ وايلد"، التي كانت مهملة في صحراء أريزونا لعقود، في مهمة لوجستية بطولية إلى متحف الحرب الإمبراطوري في بريطانيا.

هذا البطل المنسي، الذي كان أكبر من أي طائرة أخرى في المتحف، عاد للحياة ليُذكر الأجيال كيف أن الحاجة في أوقات الصراع يمكن أن تولد أروع الإنجازات، وكيف يمكن لآلة حرب مرعبة أن تصبح أداة للسلام، وأن تقرب المسافات وتجعل العالم أصغر.