أوراق رمضانية.. نبحر خلالها في ما ارتضاه الخالق لخلقه، وما يليق بالمسلمين نهجاً وسلوكاً وفهماً وحياةً. فيها نجد ما قاله الرب والعبد في ما هو خيرٌ للناس، ونتلمس المعاني، وندرك التفاسير، ونحوط معاً في تعاليم ديننا الحنيف، في ما أقره الإسلام وانحاز إليه، وفي ما نهى عنه ونبذه.. نخلص النية للخالق جل وعلا، وندرك عظمة الفهم للأوامر الربانية. وفيها أيضاً ما يجول في حياتنا وتربيتنا الإسلامية.. نتعرف على حكم وأحكام، ونتلمس الدروب للفهم والإنجاز، ونتعمق في تدابير الخالق للكون والإنسان.. في أوراق رمضانية لـ محمد الطيب عربي، نتوقف بعين التأمل للتلذذ في ما يمكن أن يجعل من يومنا الرمضاني ثرياً وغنياً بما يرضي الله، وبما يرضي ضمائرنا المنتمية إلى هذه الرزانة والثقة؛ والتربية الإسلامية.
في عصرنا الحديث تُعنى الدول والشعوب بالرياضة البدنية، فنشاهد أن لها منافسات تُجرى على النطاق المحلي أو الإقليمي أو العالمي، وترصد الجوائز للفائزين تحفيزاً لمزيد من العناية بهذه الضروب المختلفة من الرياضة؛ ألعاب الكرة وألعاب القوى بمختلف أنواعها.
هذه العناية بالرياضة لبناء الأجسام الصحيحة القوية لمواجهة التحديات، سبق إليها الإسلام قبل قرون طويلة، فقد وردت لفظة القوة في كتابنا الكريم، كما ذكرت كلمات: العزم والشدة والبأس كصفات لبعض الأنبياء والمرسلين وهم أولو العزم من الرسل.
قال علماؤنا المفسرون إن كل نبي ذو عزم وأشد الأنبياء والرسل عزماً خمسة امتازوا بالقوة والتحمل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين محمد عليه وعليهم صلوات الله وسلامه. قال تعالى: «وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً». (الآية 7 من سورة الأحزاب).
ويقول عز وجل للمسلمين بشأن إرهاب أعداء الدين: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» (الآية 59 من سورة الأنفال). ويقول أيضاً في حق المؤمنين: «أشداء على الكفار، رحماء بينهم» (الآية 29 من سورة الفتح). وقال تعالى: «ولا تهنوا في ابتغاء القوم» (الآية 104 ــ النساء). أي لا تضعفوا. وقال عز من قائل: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين» (الآية 139 ــ سورة آل عمران).
القوة الإيجابية
والقرآن الكريم كي يجعلنا في دائرة القوة الإيجابية التي تستعمل في الخير ومصلحة البشرية، لا قوة البطش والجبروت التي تكون وبالاً على الناس، يذكرنا بموسى عليه السلام عندما قطع على نفسه عهداً بألا يستغل نعمة القوة التي أنعم الله عليه بها في غير السبيل التي وجدت لها. «قال رب ما أنعم عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين» (الآية 17 من سورة القصص).
وهب الله سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام قوة خارقة، يُتبين ذلك من خلال قرآننا في قصة دخوله المدينة، إذ وجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من شيعته والآخر عدو، فما كان من الذي هو من شيعته إلا أن استغاث به على العدو فوكزه موسى فقضى عليه. وهذا ما نراه على أرض الواقع، حيث إن صاحب القوة الجسمانية الخارقة إذا وكز ضعيف الجسم فلا بد أن يقضي عليه أو على الأقل يسبب له عاهة مستديمة.
القوة والشكر
وهنا وبعد ذلك العرض للقوة الذي نتج عنه ذلك العدو، لم يستعرض صاحب الرسالة المرجوة لجبار مصر وطاغيتها فرعون، عضلاته ليكون جباراً في الأرض، كلا، وإنما رجع وأناب إلى ربه واستغفره «قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فغفر له إنه هو الغفور الرحيم» ثم كان الشكر على إنعام الله عليه بهذه القوة وبما غفر له: «قال رب إني بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين» (الآيتان 16 ـــ 17 من سورة القصص).
وأوفى موسى بما عاهد الله عليه، فها هو يرد ماء مدين فيجد امرأتين لا تقويا على مزاحمة الرعاة على الماء، فتقفان بعيداً حتى يصدروا، ونتابع القصة كما وردت في آيات سورة القصص. قال تعالى: «ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ما خطبكما، قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاه وأبونا شيخ كبير. فسقا لهما ثم تولى إلى الظل فقال ربي إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير» (الآيتان 23 ـــ 24 من سورة القصص).
ويستمر سياق القصة ليصل موسى عليه السلام إلى الشيخ الكبير والد الفتاتين بعد أن رشحته إحداهما ليخدمه استئجاراً لأنه «القوي الأمين». وهنا تبرز نقطة مهمة وهي أن القوة ينبغي أن تكون مصحوبة بالأمانة «قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين» (الآية 26 من سورة القصص).
ونمضي مع القرآن في حديثه عن القوة فنجد في سورة «ص»، الآية 45 تذكيراً من الله سبحانه وتعالى لرسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم بعباده ذوي الأيدي (رمز القوة) والأبصار (في الدين والخوف من قدرة الله التي لا ينساها إلاَّ الطغاة البغاة). جاء ذلك في قوله تعال: «واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار».
وفي وصف الملك طالوت يقول سبحانه وتعالى: «إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم» وهنا تضاف إلى القوة الجسمانية القوة العقلية (العلم).
دين ينبذ الضعف
هذا يقودنا إلى أن الإسلام يُعنى عناية فائقة بالقوة البدنية للمسلم ليستطيع بهذه القوة مواجهة الأعداء الذين يحاولون بقوتهم الشريرة السالبة إذلال المسلمين. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجع جماعة الإيمان على اكتساب هذه القوة البدنية لتكون عوناً للقوة الإيمانية، ويوصي دائماً بالحرص على تنمية هذه القوة والمحافظة عليها بوسائل نظرية وتطبيقية عدة، إذ يقول: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».
هذا وقد أثبت كثير من الصحابة رضي الله عنهم هذه القوة في ميادين القتال، وقد برز عدد لا يستهان به منهم في المبارزات وهزموا مَن حدثتهم أنفسهم من الأعداء بأنهم الأقوى. تقول إحدى الروايات التاريخية والسيرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم إليه وفد من نجران قالوا: يا محمد، ابعث لنا من يأخذ لك الحق ويعطيناه. فقال صلى الله عليه وسلم «والذي بعثني بالحق لأرسلن معكم القوي الأمين». وكان اختياره أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه. وقد روت لنا السير أن ابن الجراح كان من المقاتلين الأشداء الأقوياء على الأعداء وأمثاله كثر.
عمر بن الخطاب
يرون أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رأت جماعة من المسلمين يسيرون الهوينى في تراخٍ وفتور في طريقهم إلى المسجد فحسبت أنهم مرضى أو بهم مصيبة جعلتهم يبدون على ذلك النحو الذي رأتهم عليه، فسألت عنهم «ماذا ألم بهؤلاء؟».
قالوا: «يا أم المؤمنين ما بهم من مرض ولا شيء من هذا القبيل ولكنهم نُساك وزهاد». فغضبت السيدة عائشة من ذلك وقالت لهم: «والله ما أنتم بأكثر نسكاً ولا زهداً ولا تقوى من عمر، كان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع، وعمر الذي وصفته السيدة عائشة بهذا الوصف جاءته في خلافته جماعة من هذا الصنف الذي يتحدث في خور ومسكنة فقال لهم: «لا تماوتوا فتميتوا علينا ديننا».. بلى أيها الفاروق إن ديننا دين الحيوية والهمة والقوة الإيجابية، قوة في الحق تتحدى الباطل.
