هي امرأة لم تدخل مفردة المستحيل إلى قاموسها، حياتها سلسلة من التحديات، وما إن تحقق نجاحاً، حتى تصطنع تحديات أخرى، ومن ثم تخوض جولة جديدة.
هكذا حياتها منذ أن كانت طالبة في المرحلة الإعدادية، إذ استهوتها مهنة البحث عن المتاعب، ولما أنهت الدراسة الثانوية، كان تحديها الأهم والأكبر، أن تقنع والدها المحافظ أو الأكثر ميلاً إلى التشدد، بأن تلتحق بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، وهو مطلب لم يكن سهل المنال آنذاك، وبعدما تجاوزت هذا التحدي، وتخرجت في الجامعة، كان عليها أن تخوض رحلة الألف ميل، لإثبات ذاتها وقدراتها، ولتأكيد أن اختيارها دراسة الإعلام، كان خياراً صحيحاً صائباً.
إنها عبلة النويس، الكاتبة الصحافية المعروفة، أول مواطنة تحمل لقب رئيسة تحرير، وهي واحدة من رائدات الصحافة النسائية لا في الإمارات فقط، وإنما في الخليج العربي، حيث أسست مجلات: زهرة الخليج والمرأة اليوم والشيف وليبرا والدنيا، وقناة ليبرا الفضائية، وتفتح مخزن ذكرياتها الثري.
وتقدم شهادة مهمة عن تاريخ الصحافة النسائية في الدولة، ودورها في محاربة المشكلات الاجتماعية المختلفة، وتروي في الوقت ذاته فصولاً من سيرتها الذاتية، وذكرياتها مع المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ومع سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية، ورئيسة الاتحاد النسائي العام، رفيقة درب الشيخ زايد، في رحلة العطاء والوفاء.
تقول عبلة النويس: حب الإعلام مرض جميل، لا يريد المصابون به التعافي، وقد استهوتني الصحافة في المرحلة الإعدادية، فكنت أقدم الإذاعة المدرسية، وأصمم وأحرر مجلات الحائط، فضلاً عن تنظيم ندوات تناقش قضايا ما نسميه الآن تمكين المرأة اجتماعياً.
وبعد حصولي على الثانوية العامة، قررت أن أدرس الصحافة، وعندئذٍ أعلنت الأسرة الحرب عليّ.
ففي هذا الوقت، كان والدي يرى أن مهنة الصحافة تمثل مرادفاً لمهنة التمثيل، ومع الاحترام لكل المهن، إلا أن المجتمع المحافظ الذي أنتمي إليه، كان يتوجس حذراً من الفن عموماً.
وترجع هذه الفكرة، إلى تجربة روزا اليوسف، السيدة الشهيرة التي أسست المجلة التي حملت اسمها، وكانت ملء الأسماع والأبصار، والمعروف أنها بدأت حياتها وشهرتها بالعمل في المسرح.
وبطبيعة الحال، كانت الحرب صعبة وشرسة، فأنا لا أحاول إقناع أبي فحسب، وإنما أسعى لتحطيم منظومة تقاليد ترسخت على مدى قرون، وأمام شراسة المعركة، تلقيت الهزيمة في الجولة الأولى، ولكنني لم أرفع رايتي البيضاء.
كانت الرياح عاتية قوية، وكان عودي غضاً ضعيفاً، مما دفعني إلى خيار الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وما هي إلا أسابيع، حتى كنت قد سحبت أوراقي منها، وانتقلت إلى كلية الإعلام، من وراء أسرتي.
علقة ساخنة
تواصل عبلة النويس سرد ذكرياتها قائلةً: لم يكتشف أبي الحقيقة إلا حينما كنت في السنة الدراسية النهائية، وقد كان جزائي على ما فعلت، علقة ساخنة، كادت أن تتسبب بإصابتي بانفصال في شبكية العين اليسرى، غير أنه قرر أن أتقدم للامتحان، ومن ثم لا أمارس المهنة على الإطلاق.
ثم تزوجت وانتقلت للعيش في أبوظبي، في بداية السبعينات، وهي واحدة من أهم المراحل، في تاريخ دولة الإمارات، حيث شهدت بدايات تأسيس الدولة الحديثة، على يد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، غير أنها لم تخلُ أيضاً من المنغصات بالنسبة لي.
في ذاك الزمان، كانت فكرة عمل المرأة من التابوهات المحرمة، فشعرت أنني ضيعت سنوات الدراسة سدى، ولم يكن لي من صديقة، إلا موزة الحبروش، رئيسة جمعية نهضة المرأة الظبيانية السبقى، فكنا نجلس يومياً على الرمل، أمام بيتينا المتجاورين، فأبثها شكواي وشعوري باليأس والضجر، وتشاطرني هي نفس المشاعر لأنها كانت جامعية أيضاً... وذات يوم فاتحتني في رغبتها في العمل، وأنها قررت التقدم للعمل في وزارة التربية والتعليم، مما شجعني على التقدم بدوري. ثم شاء القدر، أن يقف في صفي، ويمد إلي يد الرحمة، فإذا بي أعمل مسؤولة الرقابة على المصنفات الفنية، في وزارة الإعلام.
وتقول: في هذه الأثناء كان الشيخ أحمد بن حامد يتقلد حقيبة وزارة الإعلام، وشاءت الأقدار أن يلتقي بوزير التربية آنذاك، ليعرف منه بأن هناك مواطنة خريجة إعلام سيتم تعيينها في الوزارة، فقال: إذا كانت خريجة إعلام، فوزارة الإعلام أولى بها. وأثناء عملي في الرقابة، كانت جريدة الاتحاد تصدر بشكل اسبوعي، وتطبع في لبنان، فتوجهت إلى رئيس التحرير، واسمه أدموند أسطا.
وعرضت عليه أن أقدم له اسبوعياً صفحة عن المرأة من دون مقابل، فوافق، وهذه الصفحة كانت البذرة الأولى للصحافة النسائية في الإمارات، وفي هذه الغضون بدأت إعداد برنامج إذاعي اسمه عالم المرأة، منذ عام 1973... كل هذا مجاناً وفقط لكي أشبع رغبتي وشغفي بمهنة البحث عن المتاعب.
الحركة النسائية
وتضيف: خلال الفترة من سنة 1973 حتى 1975، بدأت الحركة النسائية تتشكل، وقد واكبتها طفرة في الصحافة النسائية، وقد كان هذا الأمر مخططاً له. فعندما بدأ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، جهود تأسيس الدولة الحديثة، كنت أقوم آنذاك بتقديم صفحة المرأة في جريدة الاتحاد، وكان يرحمه الله، يتابع كل ما يكتب في الصحف، وآنذاك تولى راشد عبد الله، وزير الإعلام الأسبق، منصب وكيل الوزارة... وتولى مسؤولية تطوير الجريدة، مجموعة من كبار الصحافيين، منهم: المرحومان مصطفى شردي، وجمال بدوي وغيرهما، فطلبت التعيين في الجريدة، والتخلي عن وظيفتي في قسم الرقابة بالوزارة.
وإحقاقاً للحق، أريد أن أسجل، أن المغفور له الشيخ زايد، كان يدعمني دعماً معنوياً كبيراً، وهذا يرجع إلى رؤيته السباقة والصائبة آنذاك، فقد كان يردد باستمرار: إن ما نسعى إلى محاربته من سلبيات، وما نسعى لترسيخه من منجزات، لن يتأتى من غير إعلام يقف إلى جوارنا ويؤازرنا.
وكانت الآفة الكبرى تتمثل في أمية المرأة، وإقناع المجتمع بضرورة تعليم الفتاة، ومن أجل مجابهة هاتين الآفتين، وجه المغفور له الشيخ زايد بتأسيس زهرة الخليج، وهنا تدخل القدر مرة ثانية، فأشرفت على أول مجلة نسائية إماراتية، وأول مواطنة تحمل لقب رئيسة تحرير، وكذلك ثاني امرأة تتولى هذا المنصب، على مستوى الخليج العربي، بعد الكويتية غنيمة المرزوق رئيسة تحرير أسرتي.
وتقول: عندما أسست المجلة، شأنها شأن أية مطبوعة، كانت لها قائمة أولويات، هذه الأولويات تم وضعها، بتوجيهات المغفور له الشيخ زايد شخصياً، فمع بداية المجلة، طالبني بالتركيز على قضايا محو الأمية والتعليم، وفي هذه الغضون كانت سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، تؤدي دوراً مهماً، عبر جمعية نهضة المرأة والاتحاد النسائي، فانتشرت فصول محو الأمية، وتحركت القوافل التثقيفية لطرق أبواب المواطنين في الأماكن النائية، وتعريفهم بأبرز الخدمات الصحية والتعليمية التي توفرها الدولة.. كانت الدولة الحديثة تتشكل.
وبالعودة إلى موضوع اولويات المجلة، فإلى جانب محاربة الأمية ونشر التعليم، كان المغفور له يصر على أن تكون المطبوعة صورة تعبر عن الإمارات، لذلك فقد كان التركيز خلال الفترة من 1975 وطوال السنوات الخمس الأولى، على الشأن المحلي، وبعدما رسخت المجلة أقدامها، انطلقت إلى آفاق الوطن العربي، وحينما تركت رئاسة التحرير، بداية 1998 كان توزيعها يقترب من مائة ألف نسخة، وهذا رقم مرتفع نسبياً، كون المجلة الواحدة يقرأها خمسة أشخاص وأحياناً أكثر.
أولويات مرحلية
وتشير إلى أنه بعد تأسيس المجلة بنحو ثلاث سنوات، كانت الإمارات قد قطعت شوطاً كبيراً في مجال تعليم المرأة، وعندئذٍ أصبح التوجه هو التأكيد على ضرورة أن تخوض المرأة مجال الدراسات العلمية لا النظرية، وكان هذا التوجه أيضاً نابعاً من توجيهات الوالد، طيب الله ثراه.
وبالتوازي مع هذه الجهود، كانت سمو الشيخة فاطمة، تفتح مجلسها لاستقبال بنات وطنها، وكانت أفرع الاتحاد النسائي في المناطق المختلفة تساهم في مجالي التنمية الأسرية والاجتماعية، وكان الاتحاد النسائي يشارك في سن القوانين ذات العلاقة بحقوق المرأة، وكانت سمو الشيخة فاطمة تتوجه بنفسها، إلى المناطق النائية، وتتعرف إلى مشكلات المرأة عن كثب.
وهكذا تعددت الأولويات، فناقشت المجلة مخاطر الإدمان، ثم الزواج من أجنبيات، وفي نهاية عملي كانت المجلة قد بدأت تناقش قضية تمكين المرأة سياسياً، وإمكانية دخولها المجلس الوطني وتوليها الحقائب الوزارية.
ورداً على سؤال عما إذا كانت قد شعرت بالأسى وهي تغادر زهرة الخليج، تجيب: إطلاقاً... فقد كنت أشعر بأني أديت واجبي تجاه مجتمعي، وقد شبت المجلة عن الطوق، وأصبحت واحدة من أهم المجلات العربية، كما أنني مؤمنة بأن التغيير سنة الحياة.
مرحلة جديدة
بعد مرحلة "زهرة الخليج" توليت مهمة المكتب الإعلامي لسمو الشيخة فاطمة، وكانت مرحلة ذات تحديات مختلفة.
كان التحدي الأول، أن أعبر عما يجول في خاطر سمو الشيخة فاطمة، والتعريف بما يقدمه الاتحاد النسائي العام، ليس على الصعيد الداخلي، وإنما خارج الدولة أيضاً. وكان التحدي الثاني، أن تكون مجلة المرأة اليوم، مختلفة تماما عن زهرة الخليج.
وأعتقد أنني فعلت كل ما في وسعي من أجل تخطي هذين التحديين، غير أنني لم أمكث في موقعي رئيسة للتحرير، الفترة الكافية حتى أشاهد المجلة تشب عن الطوق. وبعد المرأة اليوم، أسست مجلة تخصصت في مجال الطبخ، لخدمة المرأة العربية، وكان اسمها: الشيف، ثم أسست قناة ليبرا الفضائية، ومجلة ليبرا، وحالياً أقوم بإصدار مجلة الدنيا، وكذلك أستعد لتدشين موقع الكتروني صحافي تفاعلي.
المرور أمام مبنى "الأهرام" كان يشعل طموحاتي
حينما كنت أدرس الإعلام في جامعة القاهرة، كنت كثيراً ما أمر سيراً على الأقدام، أمام مقر جريدة "الأهرام"، وكنت ألاحظ دائماً، أن المبنى يتدفق ويفيض بالحركة والنشاط، ولم يكن هذا الأمر يتوقف في أية ساعة من ساعات اليوم.
آنذاك... كنت أشعر بأن طموحاتي تتفجر، وأحلامي بممارسة الصحافة تصرخ في صدري، فالأهرام لم تكن بالنسبة لي مجرد مطبوعة، وإنما كانت صورة لرحلة كفاح، بدأت عندما قرر مؤسسها بشارة تقلا قبل أكثر من 130 عاماً تأسيسها.
وكثيراً ما كنت أتعمد السير بالقرب من بوابة الجريدة الرئيسية، وأنا أمني نفسي بأن ألتقي بأحد الرواد الكبار، مثل: الراحل أحمد بهاء الدين، أو محمد حسنين هيكل، فأعرب عن حبي للصحافة، وأتحدث عن رغبتي في العمل.
كانت أحلامي جميلة رائعة، وكانت الزاد الذي أقتات عليه، في رحلتي الدراسية والمهنية.
لذلك... فإن النصيحة التي أوجهها لأي شاب أو شابة، في مقتبل الحياة، هي عدم التوقف عن الأحلام.
هذا هو الوالد
من الذكريات الجميلة، التي لا تبرح ذاكرتي، أنني ذات مرة كنت أسجل برنامجي الإذاعي عن التعليم في المناطق النائية، ومدى إقبال المجتمع عليه، فتوجهت إلى مدرسة للبنات في بدع زايد، فوجدتها شبه خالية.
فما كان مني إلا أن أبلغت المغفور له الشيخ زايد بالأمر، لأنه كان يحرص على التعرف إلى السلبيات، فقرر التوجه بنفسه إلى المدرسة، وهناك رأيت مشهداً تاريخيا: القائد وهو من هو، يتحدث مع الطالبات عن أهمية التعليم، ويحدث الطالبات واحدة تلو الأخرى، عن الفرص التي سيحظين بها في حال تعلمن، وبعدئذِ يتوجه إلى بيوت الأهالي ويجلس مفترشاً الرمال، مع سكان البادية، كي يتحدث إليهم عن ضرورة تعليم بناتهم، ويضرب لهم المثل بنفسه، حينما يؤكد أنه أرسل بناته للتعليم، مؤكداً أن الأمر لا يتعارض مع القيم والعادات الأصيلة.
مقتطفات سريعة
عندما بدأت إصدار زهرة الخليج كان عدد فريق التحرير لا يزيد على سبعة أشخاص، وكانت تصدر أسبوعيا، وكان هذا يتطلب جهدا من قبل فريق العمل، ومع ذلك كانت الأمور تسير بشكل جيد.
* حلم تأسيس قناة فضائية بدأ يراودني منذ نحو عشرة أعوام، ثم تحقق الحلم بتأسيس قناة ليبرا الفضائية، التي حققت نجاحاً لا بأس به، غير أن القناة أغلقت قبل أن تحقق الجماهيرية المناسبة.
* كان صدور زهرة الخليج ثورة كبيرة في الصحافة المحلية، فقبلها كانت المواطنات ينتظرن وصول المطبوعات النسائية من القاهرة وبيروت والكويت على متن الطائرات، ولما صدرت مجلة تعبر عنهن، كان الاستقبال رائعا والاحتفاء كبيرا، هذا بالتالي كان نجاحا مبكرا ساعد المجلة على أن تقف على قدميها في السوق المحلي.
* أفخر بأن زهرة الخليج وثقت وأرخت لمرحلة تاريخية مهمة في تاريخ العمل النسائي في دولة الإمارات، وقد أكدت رسالة دكتوراه في جامعة القاهرة صحة هذه المقولة.
