في زحمة البطولات الكبرى وصخب الجماهير، تبهت ألوان بعض الرياضات التي تحمل في طياتها متعة وتحدياً لا يقلان عن الرياضات الشهيرة، لكنها لا تجد من يحتفي بها كما يجب، هناك ألعاب تعيش في الظل تمارسها قلة من العشاق وتغيب عن الشاشات.. لكنها تحمل بين تفاصيلها ما يكفي لصناعة الأبطال.. وتقديم نماذج رياضية راقية تستحق أن تحكى.
الكرة الحديدية
تُعرف باسم «البيتانك» أو «لابوول»، هي رياضة تنافسية تجمع بين التكتيك والتركيز والتنسيق الحركي، وتُعد من الرياضات القليلة التي تتيح للرجال والنساء التنافس في نفس المجموعة، سواء كفريق واحد أو ضد بعضهم البعض، نشأت اللعبة بشكلها الحديث في بلدية لاسيوتا بمنطقة بروفنس جنوب فرنسا عام 1907، ومنذ ذلك الحين انتشرت بشكل واسع في أوروبا، لا سيما في فرنسا التي تُعد مركزها الرئيسي، حيث تُمارس من قِبل أكثر من 17 مليون شخص، أغلبهم خلال فترات العطلات الصيفية.
تتميز الكرة الحديدية ببساطتها؛ فهي لا تحتاج إلى تجهيزات معقدة، بل يكفي مساحة ترابية مفتوحة وبعض الكرات المعدنية الثقيلة، لكن بساطة القواعد لا تعني سهولة اللعب، إذ تتطلب مهارات عالية في التركيز والدقة، إلى جانب الذكاء التكتيكي والتواصل الجماعي.
ورغم شعبية اللعبة في فرنسا وإسبانيا، وامتدادها إلى دول مثل الولايات المتحدة، كندا، لاوس، تايلاند، فيتنام وكمبوديا، إلا أنها لا تزال رياضة منسية في كثير من الدول العربية، تمارس على نطاق ضيق من قبل عدد محدود من الهواة، دون دعم مؤسسي أو تغطية إعلامية توازي قيمتها الرياضية والاجتماعية.
ما يمنح هذه اللعبة خصوصية فريدة هو أنها مناسبة لجميع الفئات العمرية، وتخلق جواً اجتماعياً تفاعلياً يجمع بين المنافسة الهادئة ومتعة التواصل، سواء بين الأصدقاء أو أفراد العائلة.. لكنها، رغم كل هذه المقومات، لا تزال في انتظار فرصة عادلة لتُعرض على المسرح الكبير للرياضة، وتنتقل من الظل إلى الضوء.
الكرة الاستعراضية
بكرات تُحلق بين الأكتاف والركب والرؤوس، وجمل فنية تخطف الأنظار، تفرض كرة القدم الاستعراضية نفسها كأحد أكثر الفنون الرياضية إبهاراً، دون أن تجد لنفسها مكاناً على خارطة الرياضات المعترف بها رسمياً، هي ليست مجرد استعراض للمهارة، بل مزيج من الإبداع والمرونة والانضباط الذهني، يمارسه محترفون حول العالم بأساليب وتقنيات مذهلة.
نشأت هذه الرياضة من قلب الشارع، وتطورت على أيدي لاعبين مهووسين بالكرة، ليتحول التحكم بها من مجرد وسيلة للتمرير أو التسديد، إلى لغة تعبير حر عن الشخصية والخيال، ومع انتشار مواقع التواصل، بدأ نجوم اللعبة يحققون شهرة عالمية عبر الفيديوهات القصيرة، لكن دون أن يخرجوا من الإطار الترفيهي إلى التنافس الرسمي الحقيقي، لا توجد بطولات دولية معتمدة تحت مظلة اتحادات كروية كبرى، ولا تحظى اللعبة بأي دعم مؤسسي في أغلب دول العالم، رغم أنها تشهد حضوراً جماهيرياً كبيراً في العروض المفتوحة والفعاليات العامة.. وهي رياضة فردية في الأساس، لا تتطلب ملعباً أو تجهيزات، بل مساحة بسيطة ومهارة عالية وإصرار على الإتقان.
ورغم تجاهلها من المنظومات الرياضية الرسمية، إلا أن كرة القدم الاستعراضية نجحت في خلق مجتمعات رقمية واسعة، ومسابقات خاصة ينظمها اللاعبون أنفسهم، في محاولة للحفاظ على شغفهم وتطوير مستوياتهم.. لذلك تعتبر رياضة في الظل، تُبهر الناظرين، لكنها ما زالت تنتظر اعترافاً يُنصف موهبة ممارسيها.
الصحن الطائر
بلا صخب بلا ملاعب ضخمة أو عقود احترافية، تمضي لعبة «الفريسبي» أو الصحن الطائر بهدوء كإحدى أكثر الألعاب الجماعية تميزاً على مستوى القواعد والروح الرياضية، وأقلها شهرة وانتشاراً في العالم العربي، اللعبة التي تعتمد على رمي قرص طائر بين فريقين في محاولة لتسجيل النقاط داخل منطقة الخصم، تجمع بين اللياقة البدنية العالية، والذكاء الجماعي.
ورغم أن «الفريسبي» تُمارس بشكل منظم في جامعات ومدارس غربية، وتحظى بتصنيف رسمي لدى الاتحاد العالمي للألعاب البديلة، إلا أن اللعبة ما زالت تعاني من غياب شبه كامل في المنطقة العربية، سواء من حيث الترويج أو الدعم أو حتى الاعتراف بها ضمن الأطر المؤسسية، وفي الوقت الذي تُنظم فيه بطولات عالمية بمشاركة عشرات الدول، يظل اللاعبون العرب يمارسون اللعبة في الظل، عبر تجمعات صغيرة أو فرق طلابية مستقلة.
ما يُميز «الفريسبي» عن غيرها، هو ما يُعرف بـ«روح اللعبة» حيث لا يوجد حكم رسمي داخل الملعب، ويعتمد اللاعبون على النزاهة والاحترام المتبادل في إدارة اللقاء، وهو ما يجعلها تجربة تربوية وتنموية.. ولا تزال هذه الرياضة تنتظر من يكتشف قيمتها، ويمنحها فرصة لتتحول من نشاط هامشي إلى لعبة جماهيرية تستحق الظهور.
الكرة الخشبية
من الحدائق الإنجليزية إلى الأزقة المنسية، تسير الكرة الخشبية نحو النسيان، بعد أن كانت يوماً ما تُمارس في البلاطات الملكية وتحظى بتقدير النبلاء، وتقوم هذه اللعبة على مبدأ «دحرجة» كرة خشبية «مفلطحة» لتقترب من كرة صغيرة بيضاء تُعرف باسم «الجاك»، في مشهد يبدو هادئاً لكنه يتطلب دقة عالية وتقديراً ذكياً للمسافات والزوايا.
ورغم بساطتها وتاريخها العريق الذي يعود لقرون طويلة، إلا أن اللعبة تراجعت عالمياً لصالح رياضات أكثر صخباً، وتكاد تغيب تماماً عن المشهد الرياضي، فلا اتحادات، ولا مسابقات، ولا حتى أندية تستقطب المهتمين بها، باستثناء محاولات محدودة في بعض الجاليات الأجنبية أو الحدائق العامة في دول قليلة. ما يميز الكرة الخشبية أنها رياضة مناسبة لكبار السن، وتُشجع على الاستمرارية البدنية والعقلية في سن متقدمة، فضلاً عن كونها غير تصادمية ولا تتطلب لياقة قوية كما أنها لعبة اجتماعية بامتياز، تُلعب غالباً في أجواء ودية، ويختلط فيها التنافس بالرفقة.
الباركور
السرعة، القفز، التسلق، الانسيابية في الحركة تلك هي مفردات الباركور، الرياضة الحضرية التي نشأت في شوارع فرنسا وتحولت إلى أسلوب حياة لدى آلاف الشباب حول العالم.
ولا تحتاج الباركور إلى ملعب ولا زي رسمي، بل تمارس فوق الجدران، وبين السلالم، وعلى حواف الأبنية، وتعتمد على تجاوز العوائق الجسدية من خلال حركات رشيقة وتخطيط ذهني مسبق، ورغم الشعبية المتزايدة التي تحققها هذه الرياضة في أوساط الشباب، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي فإن الباركور ما زالت تفتقر إلى التنظيم الرسمي في كثير من الدول ولا توجد اتحادات معترف بها على نطاق واسع، ولا بطولات دولية تحت مظلة رياضية موحدة، ما يجعل الممارسين خارج منظومة الاحتراف ويحول دون احتضانهم وتطوير مهاراتهم بشكل مؤسسي.
ويُنظر إلى الباركور في بعض المناطق كفعل استعراضي أو سلوك شبابي عشوائي، بينما هي في حقيقتها رياضة متكاملة، تتطلب لياقة بدنية عالية، وتدريبات صارمة، وتطبيق مبدأ السلامة كما تحمل أبعاداً نفسية مهمة، حيث تُعزز الثقة بالنفس والقدرة على تجاوز التحديات.
