تتحول التكنولوجيا يوماً بعد يوم إلى شريك أساسي في عالم كرة القدم، حيث تضيف باستمرار أدوات جديدة تعيد تشكيل طريقة إدارة المباريات، وعلى رأس هذه الابتكارات «كاميرات قضاة الملاعب»، التي خطفت الأنظار خلال بطولة كأس العالم للأندية الأخيرة.
وشاهدت الجماهير تجربة غير مألوفة، بعدما أصبحت قادرة على متابعة اللقطات من زاوية نظر الحكم نفسه، بفضل كاميرا صغيرة مثبتة على جسمه، تنقل تفاصيل الاحتكاك واللحظات الجدلية كما تحدث تماماً على أرض الملعب، وتفتح نافذة جديدة على ما كان خفياً في السابق.
ويبدأ التحكيم شيئاً فشيئاً في الخروج من إطاره التقليدي، ويتحرر من الاجتهاد البشري الذي لطالما كان محل جدل، وقلبت تقنية الفيديو المساعد «الفار» موازين القرارات، وبات التسلل شبه الآلي يحسم أدق التفاصيل في لحظة، والآن، تضيف الكاميرات بعداً بصرياً جديداً، يمنح الجماهير فرصة لرؤية ما يراه الحكم، ويجعلهم أقرب من لحظة اتخاذ القرار، في تجربة تمزج بين المتعة والشفافية، وتدفع بالتحكيم نحو مرحلة أكثر انكشافاً.
ويعتبر بييرلويجي كولينا، رئيس لجنة قضاة الملاعب في الاتحاد الدولي لكرة القدم، أن ما يجري اليوم هو نتيجة طبيعية لسنوات من السعي نحو مزيد من الشفافية والدقة في مجال التحكيم، مؤكداً أن هذه الأدوات لم تصمم لأغراض العرض الترفيهي فقط.
بل أصبحت تستخدم كأدوات فنية لتحليل المواقف المعقدة وتدريب الحكام على اتخاذ قرارات أكثر دقة ووعياً، وتحولت المباريات تدريجياً إلى مشهد أقرب لاستوديو تفاعلي، تدار تفاصيله من أرض الملعب، عبر غرف المراقبة والتقنيات المساعدة.
ورغم أن هذا التطور أسهم في تقليل الأخطاء، بدأ التأثير يمتد إلى طبيعة الدور الذي يؤديه الحكم، إذ أصبح أكثر ارتباطاً بالتقنية، وأقل اعتماداً على التقدير اللحظي، ومع تزايد الاعتماد على هذه الوسائل، تتغير ملامح السلطة التحكيمية التقليدية، ويتشكل نمط جديد في إدارة المباريات، تقوده الكاميرات والأنظمة الذكية بقدر ما يقوده البشر.
وتراجعت مساحة الاجتهاد الشخصي في التحكيم بشكل ملحوظ، وأصبح الكثير من القرارات يحسم بعيداً عن اللحظة الآنية داخل الملعب، سواء في غرف المراقبة عبر تقنية الفيديو، أم من خلال إشارات دقيقة تصدرها أنظمة التسلل شبه الآلي، أم حتى بواسطة آلية العد التنازلي التي تطبق حالياً على حراس المرمى في إطار «قاعدة الثواني الثمانية».
وتتوسع دائرة هذه التحولات مع استعداد الدوري الإنجليزي الممتاز لاعتماد تقنية «كاميرات قضاة الملاعب» بداية من الموسم المقبل، بعدما أثبتت فاعليتها في كأس العالم للأندية، وتسعى رابطة البريميرليغ إلى تقديم تجربة أكثر تفاعلية للجماهير، وتوفير رؤية أوضح للقرارات التحكيمية من داخل الملعب، في خطوة تعكس توجهاً متزايداً نحو دمج التكنولوجيا بشكل أعمق.
واقع جديد
وتفرض هذه التحولات واقعاً جديداً يعيد تشكيل دور الحكم، ويقوده تدريجياً نحو نمط أكثر ارتباطاً بالتكنولوجيا وأقل اعتماداً على التقدير البشري، ولم يعد الحكم المساعد مثلما كان في السابق، بعدما صارت الكاميرات ترصد أدق التفاصيل.
وتصدر الأنظمة الذكية قرارات حاسمة في لحظة، وتؤسس هذه الأدوات المتطورة لمرحلة تتحول فيها الإدارة التحكيمية من سلطة فردية إلى منظومة تقنية جماعية، توجه مجرياتها من خارج المستطيل الأخضر.
في السياق نفسه، يدرس مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم (IFAB) إدخال تعديلات جذرية على قوانين التحكيم، توسع من صلاحيات حكم الفيديو المساعد (VAR)، في تطور يمهد لمزيد من السيطرة التكنولوجية على القرارات داخل الملعب.
وتشير التقارير إلى دراسة إمكانية تدخل الفار في حالات لم يكن يسمح له بها سابقاً، مثل إلغاء الركلات الركنية إذا ثبت احتسابها بشكل خاطئ، ومراجعة البطاقات الصفراء الثانية للاعبين، كما تشمل المقترحات تعديلاً على قاعدة تنفيذ ركلات الجزاء، بمنع متابعة الكرة المرتدة واعتبارها «ميتة»، بحيث يستأنف اللعب من جديد بعد التصدي للكرة. وفي حال اعتماد هذه التعديلات، يتوقع أن تدخل حيز التنفيذ قبل انطلاق كأس العالم 2026.