في أمسيّة الأمس طفنا ببعض الصغار من الغلمان من أبناء العرب ورأينا سرعة بدائههم، ونستكمل ذلك في أمسية اليوم إن شاء الله . فمن ذلك ما يُروَى من أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله عندما تولى الخلافة، كان في مجلسه عندما أقبلتِ الوفود إليه لتهنئته، وكان أحدهم قد اصطحب ولده معه . ويبدو أن الغلام اشرأبّ للكلام، فقال له عمر : يا غلام، دع من هو أسنّ منك .

فوثب الولد بين يدي عمر وقال على الفور، يا أمير المؤمنين، لو أن الأمور تقاس بالسنّ، لكان من بيننا من هو أحقُّ بمكانك منك ! وإنما المرء بأصغَرَيْه : قلبِه ولسانِه ! يا أمير المؤمنين، نحن وفْد التهنئة، ولسنا وفْدَ التَّرْزئة، فقد أدركنا في عهدك ما كنا نطلب، وأمِنَّا فيه ما كنا نخاف .. فأعجب به عمر كثيرا .

ـ ومن ذلك ما يروى من أن الخليفة المعتصم علم أن الخاقان، وهو من وزرائه، مريض فذهب إليه في داره يعوده، وكان الفتح بن خاقان طفلا صغيرا وكان أبوه يصطحبه معه إلى قصر الخلافة . فلما رآه المعتصم أراد أن يمزح معه، فقال له ممتحنا : أنت جئت إلى بيتي، فأيهما أفضل بيتنا أم بيتكم ؟ فقال في الحال : بيتنا أفضل طالما أنت فيه! فعجب من ذكائه . ثم رآه يمعن النظر كثيرا إلى خاتم ثمين كان الخليفة يلبسه، فقال له الخليفة : أيعجبك هذا الخاتم ؟ قال نعم إنه في غاية الجمال . قال : ألمْ تَرَ ما هو أجمل منه ؟ قال : بلى . الإصبع التي تلبسه ! فازداد الخليفة إعجابا به .

الأعمش وغلام

الفقيه الكبير سليمان بن مهران الشهير بالأعمش، كان مع علمه وخفّة روحه ضيق الصدر غضوبا . وكان الناس يقصدونه في بيته ليحدثهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرا ما كان يضيق بهم . . وذات يوم جاءه بعضهم صباحا ليسمعوا منه فخرج إليهم متضايقا وفي صدره حَرَج فقال لهم مبتدرا : أليس من الشقاء أن أكون جالستُ ضَمرة بن سعيد، الذي جالس الصحابيّ أبا سعيد الخُدْري، وأن أكون جالست عمرو بن دينار الذي جالس الصحابي جابر بن عبد الله، وأن أكون جالست عبد الله بن دينار الذي جالس الصحابي عبد الله بن عمر،

ثم إني أجالسكم ؟ فوجم القوم وأُفحموا ولم يجدوا كلاما إلا صبيا صغيرا جاء برفقة أبيه، إذ وثب فوقف بين يدي الأعمش وقال له : أتُنْصِف يا أبا محمد ؟ قال إن شاء الله . قال والله إن شقاء أصحابِ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلوسك إليهم لأشَدُّ من شقائك بالجلوس إلينا ! فأفحم الأعمش ولم يجد ما يقوله إلاّ أن يتمثل بشعر لأبي نواس

خَلِّ جنبيْك لرامِ

وامض عنه بسلامِ

مُتْ بداء الصمت خيرٌ لك من داء الكلامِ

إنما العاقل من

ألجمَ فاهُ بلجامِ

ومن العجيب أن هذا الغلام هو يحيى بن أكثم والذي أصبح قاضي القضاة فيما بعد ! ذهبت جماعة إليه ليسمعوا منه فتبرّم بهم وأساء لقاءهم وكان منهم مَصْقَلَة وولده واسمه رقَبَة وكان غلاما صغيرا فغضب مصقلة غضبا شديدا ولكنه لم يجد ما يقوله فوثب ولده رَقَبَة حتى وقف بين يدي الأعمش فقال : إنا والله نأتيك فما تنفعنا .. ونتخلف عنك فما تضرنا .. وإن المجيء إليك لذُلّ .. وإن تركك لحسرة .. تُسْأَلُ الحكمةَ فكأنك تُسْقِط الخردل .. وما أشبهك إلا بـ (الحنظل ) فإنهكريه الشربة، وإن كان نافعا لبعض الأمراض !

فرفع الأعمش رأسه وقال من هذا ؟ قيل هذا مصقلة، والذي تكلم ولدُه رَقَبَة . فقال لمصقلة : ماذا أقول لك ؟ كسر الله رقبتك !