تكثر في تاريخ أدبنا العربي القصص التي تؤكد أن الشعر والسياسة يقفان على طرفي نقيض، ابتداءً برأس الجاهليين امرئ القيس الذي سعى لاستعادة سلطان أبيه حُجْر، ملك كندة، والأخذ بثأره، فجرَّ على نفسه ويلات انتهت بمقتله، ومرورًا بأبي الطيب المتنبي الذي اشتهر بغروره الشديد ورغبته في الحكم اللذين يتضحان جدًّا في قوله لكافور، حاكم مصر آنذاك:

فَارْمِ بِي مَا أَرَدْتَ مِنِّي فَإِنِّي

 

 

أَسَدُ القَلْبِ آدَمِيُّ الرُّوَاءِ

 

 

وَفُؤَادِي مِنَ الْمُلُوكِ وَإِنْ كَا

 

 

 

نَ لِسَانِي يُرَى مِنَ الشُّعَراءِ

 

 

 

ليصيِّره طمعه في السياسة بعد ذلك جثة هامدة، وليس انتهاءً بنزار قباني الذي بدأ حياته في السلك الدبلوماسي سفيرًا لدمشق في القاهرة، ثم لعواصم أخرى، منها: لندن، وأنقرة، وبكين، ومدريد، ليدع كل هذا فيما بعد ويعلن تفرُّغه للشعر.

ويبدو أن حب الأدب وغواية السياسة لا يجتمعان في صدر شاعر، ولا بد أن ينتصر أحدهما على الآخر بأي صورة كانت، ودائمًا يكون الضحية في هذا النزاع النفسي شخص الشاعر.

وتلك صفحة من سيرة الأدب تؤيد لنا صحة هذا التنظير السابق، وجريانه مجرى القانون المطرد في أكثر الأحيان، وبطل القصة هذه المرة شاعر عباسي تميَّز برقَّة نظمه، وسعة خياله، وفخامة صوره التي تعكس البيئة الملكية التي عاش فيها بوصفه سليل الأسرة العباسية.

بدأت مأساة شاعرنا مبكرًا عندما قُتل أبوه المعتز بالله، لتعتني به بعد ذلك جدته، وتعمل على تنشئته أديبًا عالمـًا، وسرعان ما يتفتق ذهن الصبي عن مواهب شتى، الشعر أهم أركانها، ويفيض قلمه بالتآليف الغزيرة.

كان من أشهر ما خطَّه بنانه «الزهر والرياض»، و«مكاتبات الإخوان»، و«الجوارح والصيد»، و«السرقات»، و«أشعار الملوك»، غير أن كتابه «البديع» أشد ما برز من بين تلك الأعمال، فقد أصبح عنوانه فيما بعد عَلَمًا على أحد أقسام علم البلاغة.

ولكنَّ هذا كله لم يُشبع طموح شاعرنا الكبير، وظل نظره متعلِّقًا بأمجاد آبائه وأجداده السياسية، وأخذت رغبته في الحكم واعتلاء عرش الخلافة تنمو شيئًا فشيئًا، إلى أن سنحت اللحظة الفارقة في حياته.

فقد توفي المعتضد، ولحقه ابنه المكتفي بعدها بسنوات قليلة، واعترض الناس على خلافة المقتدر الذي لم تتجاوز سنُّه الثالثة عشرة فخلعوه، وآلت الأمور إلى مبايعة ابن المعتز أميرًا للمؤمنين.

ولم يستغرق الأمر سوى ليلة واحدة ونصف نهار، إذ تمكن رئيس الحرس من تجديد البيعة للمقتدر، وتم القبض على ابن المعتز بعدما حاول الهرب، وقُتل وجرى التمثيل بجثته، لتنتهي حياة ذلك الأديب العبقري الذي جنت عليه السياسة.