المسرح عالم جميل وغريب، لا يعرف متعة العيش في كواليسه إلا من قضى جلّ حياته متنقلاً بينها وبين الخشبة الصماء وهو مهجوس بإرادة الإبداع ورؤاه، إذ لا يطول به الوقت، حتى تصبح لديه تلك الخشبة، عالماً غنياً ومؤثراً، يعيشه ويختبره بكل جوارحه. وذلك خاصة، عندما تحين لحظات تقديم العرض، فتفتح الستارة في اليوم المحدد.

دقائق، ساعات، أيام، أسابيع. وربما أشهر عديدة، تقضيها وأنت تبني توليفة مضمون العمل المسرحي، بحكاياته وتفاصيله، نقطة تلو الأخرى، وموقفاً بعد آخر، ومشهداً يتمم نظيراً له.

. إنه مخاض إبداع متلون بألم لذيذ، في كينونة وحيوات الإبداع، إذ عادة ما يسبق ولادة منتظرة هي ذات طابع فريد، ولن تستطيع أن تحكم على نجاحها وخروجها حية ناطقة، إلا بعد أن تفتح الستارة.. وذلك تماماً، مثل أي ولادة بشرية، ليس بمقدورك أن تحكم عليها بالحياة، إلا بعد أن يكون الجنين قد أصبح طفلاً خرج إلى الحياة، فأخذ يملأ الأجواء صراخاً وصخباً مفرحاً.

مخضرم أنا.. وهذا قدري

عشت المسرح ممزوجاً بحياتي.. وعاش معي عشرات من الأصدقاء لا أزال أذكرهم، وذلك حتى وإن ثقبت ذاكرتي بعض الشيء.. فالعديد منهم، ترتبط بذكراه قصة أو حكاية أو طرفة، عايشتها وخبرتها وعشت جمالياتها.

ومن ذكرياتي البعيدة في العراق، وأنا صبي، أنه جذبني، مرة، إعلان لمسرحية، بطلها أحد أساتذتي، وكان اسمه (خليل جبران)، إلا أنه عرف واشتهر بـ (أبو جبران). وكان اسم المسرحية (ستروين) وهي من النوع الكوميدي، ولممثل واحد (مونودراما).

وعرف عن أبي جبران، آنذاك، أنه فنان فطري يرتجل المسرحية كاملة على الخشبة. وفي الموعد المحدد للعرض، ذهب الناس إلى المسرح، وطبعاً لم يتخيل أحد، ماهية المعنى المقصود من عنوان تلك المسرحية، والذي يمثل اسم ماركة سيارات، في تلك الآونة.

وما إن فُتحت ستارة العرض، حتى ظهر أبو جبران ومعه حمار ينهق، بدا يرفض التحرك من مكانه، بعد أن فوجئ بالجمهور الموجود في قاعة المسرح، والذي انفجر ضاحكاً. وظل أبو جبران يحادث حماره العنيد، لفترة دامت حوالي 90 دقيقة، ملحاً برجائه له، خلالها، كي يتحرك من مكانه. وأذكر أن أحد المشاهدين المتابعين للعرض، حينها، لم ينقطع عن الضحك، متأثراً بتلك المشاهد في المسرحية المتميزة فعلاً، على الرغم من كونها ارتجالية ومن صنف المونودراما.

 

صديقنا "الزول"

تذكر المنطقة الشرقية في دولة الإمارات، جيداً، صديقنا "الزول السوداني" الأمين جماع، ويتحدث عنه الجميع، بالكثير من الاحترام والعرفان، لأنه كان معلماً في مسرح خورفكان، وصديقاً للعديد من المبدعين والأشخاص هناك، وكذلك منشطاً (مبعوثاً) مسرحياً، وأستاذاً معتمداً من قبل وزارة الإعلام والثقافة (سابقاً)، أي في ثمانينات القرن الماضي.

ومثّل الأمين جماع، رجل مسرح من الدرجة الأولى، فعلم شباب خورفكان ألف باء المسرح، وقادهم إلى تأسيس مسرح ناضج. وتخرج من هذا المسرح، رجال مسرحيون نعتز ونفخر بهم، مثل: إسماعيل عبدالله، محمد عبدالله، أحمد عبدالرزاق، علي الشالوبي، أحمد راشد ثاني، راشد خلفان، علي مسعود. وغيرهم ممن عملوا في مسرح الإمارات، في فترات عديدة، ومنهم الذي واصل المسيرة حتى الآن، وشغل أو يشغل، بعضهم، مناصب قيادية متنوعة في المسرح الإماراتي.

مسرحي عاشق للرياضة

الأمين جماع أيضاً، مخرج له تجربته في الفترة التأسيسية في المسرح في الإمارات، وهو أخرج لمسرح خورفكان الشعبي، عدداً كبيراً من المسرحيات، ومنها: (الغواص واليريور)- 1979-1980، (أشواك على درب الفرح)- 1981، (لا يا نهم)- 1981-1982، (اللعبة)- 1983، (الجنون فنون)- 1984. وغير ذلك من المسرحيات، التي عرفت واشتهرت كنتاج نوعي لمسرح خورفكان الشعبي.

ولكن الأمين جماع، كان أيضاً، وكأي سوداني، عاشقاً لكرة القدم. فالمسرح وكرة القدم، مثّلا حياته ومجال هوايته الرئيسة وهمه الأساسي. وهناك طرفة، اعتاد الأمين، ان يكررها دائماً، ومفادها، انه، وفي قمة سيرورة أعمال بروفاته المسرحية، درج على النظر إلى ساعته، كي لا يسمح ان يفوته موعد بدء مباراة كرة القدم التي ستبدأ في الملعب المجاور لمقر البروفة، وعندما يحين الموعد، كان يوقف البروفة، ويقود فريقاً خاصاً لكرة القدم، متوجهاً به إلى الملعب، وذلك ليس كمشجع فقط، بل ليقوم باللعب والمنافسة لو سمح الأمر بذلك.

وكذا حرص على أن يبدأ بصوغ تغطية صحافية، بأسلوب وصفي قصصي شيق، يرصد مختلف مجريات المباراة وتفاصيلها، فيدرجها في مقالة متكاملة، كان يرسل بها إلى إحدى الصحف الإماراتية، فتنشر ضمن حقل التغطيات الإخبارية الرياضية، حاملة اسمه في الصفحة المخصصة. وهو أيضاً، لم يكن يؤجل لعبة لطالما ركز بهدف متابعتها، على أن يتجاوز كل المعوقات، ليصل إلى الملعب، في الوقت المناسب، ومن ثم يكتب وصفه الصحافي لها. كان الأمين جماع رياضياً بامتياز، وأيضاًً رياضياً متميزاً ومحللًا استراتيجياً في حقل فن كرة القدم، وذلك تماماً، مثلما كان مخرجاً ومربياً في المسرح.

 

(المخلج بحل)

صديقي بحر كاظم.. أحد الذين عملوا في مسرح الإمارات، فترة طويلة، وكان مؤثراً جداً، في زمانه. ولديه تجربته التي سجلت في تاريخ المسرح في الإمارات، وله حكاية طريفة مع أستاذنا الراحل إبراهيم جلال، وكان مشرفاً على المسرح في "وزارة الإعلام"، على مستوى الدولة حينذاك. وحضر ليشاهد مسرحية (اللغز)، من تأليف علي سالم، وإخراج تلميذه بحر كاظم لفرقة (مسرح عجمان)، في العام 1979.

وكانت معظم الفرق المسرحية لا تصدر بروشور خاصاً بالمسرحية، لأسباب مالية، بل بقي يكتفى بالإعلان عن الممثلين والعاملين، من خلال المايكروفون. وآنذاك، وقبل عرض المسرحية تلك، بدقائق، أمسك بحر المايكروفون ليقدم فريقه التمثيلي. وطبعاً، هو كان يلثغ بلفظ حرف الراء فيقلبه لاماً. وبعد أن قدم أسماء أعضاء فريق العمل، وصل إلى اسمه. فقال عن نفسه (بحل) كاظم:

(يقصد بحر)، المخلج (المخرج) العلاقي (العراقي)، الذي أخلج (أخرج) أكثل (أكثر) من خمسين مسلحية (مسرحية) في بغداد. فقفز إبراهيم جلال من مكانه، وكان جالساً يحاور صاحب السمو الشيخ حميد بن راشد النعيمي عضو المجلس الأعلى حاكم عجمان، قفز ثائراً محتجاً وهو يؤنب بحر كاظم أمام الممثلين، فصعد إلى الخشبة ودخل الكواليس وأمسك ببحر وشتمه وأنبه بحدة. وقال له: (ولك أستاذك اللي هو آني ما أخرج خمسين مسرحية في بغداد.. شلون أنت أخرجت خمسين.. ليش تكذب على الناس.. أحنه هيجي علمناكم.. بدون قيم...).

وتوسل بحر كاظم إلى أستاذه إبراهيم جلال، بعد أن اعتذر، ووعده بألا يعيدها. وهذه الحادثة هي بالواقع، في إطار القيم المسرحية التي تعلمناها من أستاذنا إبراهيم جلال. وعلمها لكل من عمل معه، وهكذا أخذ بحر كاظم درساً جديداً، حتى بعد أن تخرج بسنوات طويلة من معهد الفنون الجميلة في بغداد، إذ ان المسرح العراقي كان مؤسسة لمجموعة قيم مسرحية من خلال عمق الانتماء الفني لهذا المسرح.

 

أسماء وذكريات

ومن الذكريات الجميلة، توليفة وتشكيلة الفرق المسرحية التي كانت موجودة قبل العام 1980 من القرن الماضي، والتي دأبت، في تلك الفترة، على ابتكارها لأنواع شتى، من الإعلانات المسرحية، المشوقة والمحفزة للجمهور. فمثلاً، ابتكر كل من الكاتب كريم المخزنجي والمخرج تيسير العباسي، نوعاً من الإعلان عن مسرحيتهما، العائدة إلى جمعية الفنون الشعبية بالشارقة: (المسرح الحديث الآن)، في تاريخ في 28- 29 ....... 1978. وذلك، كما هو مكتوب في الإعلان، والذي يقول:

"أخبرك يا فنان، خذ أهلك والصبيان

حتى عيال الجيران.. شو شيء مِأَلِفَه فنان

مسرحية العائد .. ... الخ".

ثم كرر الإعلان بصيغة أخرى، لكن بالروح الجمالية نفسها:

"أنت وايد غلطان.. جالس في دارك فكران..

قوم شوف شغل الفنان: إفرح وشارك الجيران

(مسرحية العائد).. من تأليف: كريم المخزنجي، وإخراج تيسير العباسي، في قاعة إفريقيا، في يومي الخميس والجمعة، الموافق 28-29-9- 1978".

 

يوسف.. مثقف موسوعي

يمثل يوسف خليل، حكاية أخرى من ذاك الزمن الجميل، وهو مثقف موسوعي، وكان متنوعاً باهتماماته واحتياجاته، وعد مرجعاً في المسرح كما في الأدب. وكنت تجده يسيطر عليك فيأسرك عبر قدرته على الحوار والتنقل من جنس أدبي إلى آخر، ومن ثم ينتقل إلى تقديم سرديات ممتعة وشيقة عن المسرح والدراما والسينما، ليعود بك إلى الرواية فيقص عليك روايته وقراءاته، والكثير الكثير من الأقاصيص..

كان يوسف خليل فاعلاً في الحياة الثقافية ضمن الإمارات، وهو قد رحل متعجلاً سفره الأبدي. وفي المسرح كنت تجده كاتباً ومخرجاً ومنظراً، صاحب الباع والتثاير الفريدين لدى شريحة الشباب خلال تلك المرحلة.. وفي الأدب رسخ كنموذج حيوي للروائي المتميز.

ولكن المتعة الأهم والأبرز، كانت تتأتى لك بينما تستمع إلى يوسف خليل وهو يقص عليك روايته شفاهة، وهكذا كنا نقرأ ما كتب قبل أن ينشر. وعموماً، كان يوسف مبدعاً مؤثراً وفاعلاً في أكثر من مؤسسة وفرقة مسرحية. ولكنه كان أكثر ارتباطاً باللجنة الثقافية للنادي الأهلي. ومن ثم مسرح دبي الأهلي، وقد شاركني في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، في ندوات عدة لمسرح دبي الأهلي، ومثل رحيله خسارة لمسرح الإمارات، كما هو صدمة للمسرح السوداني.

وتحضرني ذكريات وقصص طيبة كثيرة، عن محمود مدني: "زول آخر"، الذي عاش صحافياً متميزاً ورحل متعجلاً.. وطالما كان جسده يرفض البقاء وبذا بقي يصر على الرحيل. عرفته رئيساً للقسم الثقافي في صحيفة "الخليج" الإماراتية، خلفاً للدكتور يوسف عيدابي، والذي ترك الصحيفة نفسها، ليلتحق بالعمل في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، في فترة منتصف الثمانينات من القرن الماضي. وكان من عادة الأدباء الشباب، حينذاك، التحلق حول محمود مدني في كل يوم، وكانت أبواب القسم الثقافي، حينها، مفتوحة أمامهم جميعاً، لا بل مثل ملتقى نابضاً بالحيوية لكل الكتاب والأدباء.

وهكذا، نادراً ما كان محمود يجلس وحيداً. وقد كان باب الطرافة يتبدى يتمثل في أنه لم تكن تشغله تلك الأجواء والزيارات من الأدباء، عن الكتابة وتحرير الصفحة الثقافية، فتجده وحوله الكثير من المبدعين المتحلقين (نصف حلقة) أمام مكتبه، ضامة: أحمد راشد ثاني، مريم جمعة فرج، رعد عبدالجليل، عمر عدس، سلمى مطر سيف، يوسف خليل، والعبد الفقير (عبدالإله عبدالقادر). وأيضاً إلى جانب عدد آخر من المبدعين الذين لا تسعفني الذاكرة على تذكرهم جميعاً.

كما انه اعتاد الكتابة مستخدماً يده اليمنى، بحضور ضيوفه. وكان لديه طقس خاص لكتابة مقالته، إذ تجده يضع الهاتف، بينما يتحدث إلى أحد ما، بشكل يكون فيه محصوراً بين كتفه وأذنه اليسرى، وخلالها كان يستمر في اللعب بخصل شعره وتمسيدها بأصابع يده اليسرى.. هكذا كان محمود ينجز كتابة مقال ما أو افتتاحية العدد أو تحليل معين (ربما سياسي أو أدبي، وذلك سيان عنده)..

مجموعة من المهام والأعمال، اعتاد أن يقوم بها، في آن واحد: يطلب القهوة أو الشاي، يتحدث معنا، يتكلم بالهاتف ويكتب باليمنى. ولطالما سألته عن كيفية تأديته هذه المهام، في وقت واحد، إلا أنه كان لا يجيبني عن سؤالي، بقدر ما كان يبتسم لي. ومن ثم يستمر بطقوس وأجواء ممارسات عمليته المعقدة تلك، لا بل انه كان، أيضاً، يضع كرشه على المكتب.

وهذه ميزة أخرى. وطبعاً هذا ما لم يكن يستطيع غيره أن يفعلها. وكان، لحظتها، وعقب مبادرتي بالسؤال الذي ذكرت، يبدأ بهز كرشه، محاولاً بذلك، أن يتحدى استفساري وتساؤلي، كي يثبت قدرته على ممارسة كل تلك الحركات، بالتوازي مع قدرته على الكتابة، وطبعاً بشكل جيد، وطوال تلك المحطات والأوقات، لم تكن تغيب البسمة ومعها ملامح الفرح، عن وجهه، الأمر الذي كثيراً ما انعكس على من حوله، فأثر بهم إيجابياً.

لم أتعرف على الفنان سيف الغانم في الإمارات، بل قابلته في بغداد، خلال إحدى الدورات التدريبية العلمية في مجال المسرح، ضمت كوكبة من الفنانين العرب، ونظمتها مؤسسة السينما والمسرح في بغداد، التي كنت أعمل فيها. وتفرد سيف الغانم، حينها، بخصوصية تمثلت في انه لم يستفد من الدورة في حقلي التمثيل والأداء، فقط، بل استثمر كل خبراتها ومعلوماتها بشكل فاعل.

كما عمد، إلى الاستفادة المثلى من مهارات وخبرات أستاذه الراحل، الدكتور عوني كرومي. وعموماً، فهو بقي متدرباً ومن ثم مبدعاً مسرحياً ذكياً، وبرع في تعلم فن الماكياج المسرحي على يد خيرة خبراء الماكياج في العراق. وهذا الأمر، ساعده على التمكن من إتقان شتى مهارات العمل المسرحي وجوانبه.

ولا شك ان هذه الركائز، إلى جانب حبه الكبير للمسرح وتعلقه به، عوامل أفادته، سيف الغانم، في احتلال مكانة مهمة، والبروز كممثل متميز، وكقامة حيوية الحضور والتأثير على الخشبة. وكذلك كماكيير من الدرجة الأولى، بل عُد رائداً في فن الماكياج المسرحي في الإمارات، إذ تعلم على يديه، عدد كبير من العناصر الشابة، والتي أتقنت فن الماكياج، بفضل تدريسها هذا التخصص العلمي المسرحي، من خلال دورات تأهيلية علمية، تابع سيف الغانم تنظيمها، واستقطاب الشباب إليها.

انسحب سيف الغانم، منذ سنوات مضت، من ساحات الإبداع المسرحي، بهدوء تام، مفضلاً الدراما التلفزيونية، وذلك رغم أنه كان فناناً مسرحياً فاعلاً ومؤثراً في هذا الحقل الابداعي. علاوة على كونه أحد أبرز الرواد في هذا الحقل، في الإمارات. وأيضاً، أحد مؤسسي مسرح الشارقة الوطني. وقد ارتبط اسمه بمختلف تشكيلات مجالس إدارة هذا المسرح، لسنوات طويلة، وذلك حتى رسخ سيف الغانم ومسرح الشارقة الوطني، كصنوان لا يفترقان.

آمل أن لا يكون بريق نجومية التلفزيون هو العامل الوحيد الذي سرق سيف الغانم، من المسرح وحرمنا من أدائه وخبرته وتجربته.