جذبت دبي، الرحالة والمصورين والرسامين الأجانب إليها، منذ القدم، سواء إلى صحرائها أو خورها، أو حتى مختلف مناطقها ومواقعها الأخرى، وذلك رغبة منهم في رصد مفردات ومقومات تميزها وسحرها، لينتجوا بتأثير وهجها، أنماط إبداعات قيمة منسكبة في قالب فني توثيقي، يجسد غناها وروعتها، خاصة لصيد اللؤلؤ والحياة البحرية عموما.
وكذلك الكثير من المظاهر الجميلة الأخرى التي طالما استمرت تحفز عدسات المصورين وتثير ريشات الفنانين من شتى انحاء العالم، والذين بقوا متعلقين، في اطار حب معظمهم للشرق ودافع اكتشاف فرادة عوالمه، بسحر دبي وروح اشراقها. وبذلك أبدع كل منهم، مع ذلك التأثير الجمالي، أعمالا خلاقة.
كان المصور الإنجليزي طوني كامبل قد قدم إلى دبي، في بدايات عام 1958، كجزء من مهام عمله «مهندس معماري»، وخلال فترة إقامته في المنطقة، كان ينتهز أي فرصة ليكتشف ما يمكن اكتشافه عن الناس وثقافات دول المنطقة، على الرغم من عمله الشاق، خاصة وان ظروف المعيشة والحياة كانت على نقيض الوقت الحالي، ولكنه استطاع أن يأسر الذكريات الجميلة في تلك الأيام.
وجاءت ثمارها في سلسلة صور نادرة تعرض لقطات من الحياة في الإمارات، آنذاك، التقطها الفنان البريطاني المهندس طوني كامبل. وشملت 30 صورة نادرة لإمارة أبوظبي والشارقة ورأس الخيمة، ومنها مجموعة صور مهمة عن دبي، وهي ايضا تشمل صورا لقلعة نايف وقلعة الفهيدي في دبي عام 1960. وكذلك قصر الحاكم بدبي «ديوان الحاكم» في عام 1959. وتعتبر هذه الصور مصدر إلهام للمحافظة على التراث. وهي تعكس حياة الأجداد والآباء في هذا البلد.
قصص وصور
مايكل هاميلتون كلارك، مهندس مدني انجليزي متقاعد، وكان قد عمل في مناصب مختلفة في كل من: انجلترا، غرب إفريقيا، الخليج العربي، كندا. وهو طالما كان مهتماً بالرسم والتصوير الفوتوغرافي. وهو يشير في حديثه عن الصور التي رصد فيها جماليات الحياة بالإمارات، إلى أنه التقط مجموعة صور فوتوغرافية قديمة ذات نوعية فريدة لإمارة دبي، وهي مؤلفة من 40 صورة مختارة، تم التقاطها خلال الفترة من عام 1965 وإلى العام 1971م. وكان في عام 1962 من ضمن اعضاء الفريق الذي صمم جسر المكتوم.
وعقب وصوله إلى دبي في منتصف عام 1965، عمل كمستشار مهندس في مشروع الإضاءة، في مدرج مطار دبي الدولي. وفي عام 1966 تسلم منصب مهندس موقع لطريق دبي ـ الشارقة الرئيسي، ثم عمل في تخطيط وانشاء عدة طرق ومشاريع بنى تحتية بالإمارات، وكذلك في بعض أعمال ومشروعات البناء الأخرى، مثل: مبنى مطار الشارقة المدني:
(مطار الشارقة الدولي حاليا)، وايضا في انشاء بعض محطات البترول، وفي «دبي كاونتري كلوب». وأمضى كلارك الكثير من الأوقات المميزة في دبي، وعاصر تطورها العمراني، وقد رصد تفاصيل ذلك، في مجموعة الصور التي يمتلكها. وهو يقول في هذا الخصوص: «يصعب على من يرى دبي اليوم أن يتذكر كيف كانت منذ عشر سنوات، فكيف إذاً لو حاولنا تذكر حالها قبل 40 سنة مضت!. هذا ما اسجله واعكسه في مجموعة صوري الخاصة بها». وهو يؤكد على أنه يحاول رسم الصورة الحقيقية لحقبة مضت.
ألوان الطبيعة والعمران
يعد الفنان الفرنسي جان ــ فرانسوا لاريو، واحداً من ابرز المبدعين الأجانب، الذين اثارتهم وجذبتهم دبي. وهو تعلم الرسم ذاتياً، ويمتلك موهبة كبيرة. وموضوعاته المفضلة في الرسم هي: الأشجار والجذور والمناظر الطبيعية، والأشخاص والطيور. وعادة ما يتخيل المدن ويمنحها روحه الفنية. وقد تأثر بأجواء البحر الأبيض المتوسط، وعرضت لوحاته في كل من فرنسا واسبانيا والصين واليابان وتايوان.
وتمثل لوحاته عن دبي، ابرز انماط الإبداع الفريد، وهي مثل: (شجرة الحياة البيضاء)، (نخيل دبي)، (أسماك الشرق)، (مائدة الذكريات)، (حديقة زعبيل)، (العين) (الحماية)، (المائدة الحمراء). وجسدت اعماله تلك، نموذج خيال ابداعي واسع الأفق، لفنان كان يزور الإمارات للمرة الأولى. ولوحاته تعتبر بمثابة مداخل إلى الحياة، وبملامسة هذه الموضوعات يثير غريزة الحياة عند الجمهور.
ولا يشبه هذا الفنان بعض الفنانين الذين يأتون إلى دبي بفكرة تجارية مسبقة، برسمهم الخيول والخيام، بل اللافت أن لاريو اختار أن يعبر عن الحياة المعاصرة، في كل تشابكاتها، وذلك ليس من منطلق التفكير المسبق، بل من خلال المعاينة المباشرة لمشاهد الحياة في دبي، فهو يمزج في لوحاته عن دبي، بين الطبيعة والعمران، بشكل متناسق ومنسجم.
وتتميز لوحاته بأحجامها الكبيرة وألوانها الجريئة الزاهية. ويتميز الفنان النمساوي جيرالد هوبير، بأنه يستوحي لوحاته من دبي، ذلك على عكس الفنانين الذين يجلبون تجاربهم الفنية إلى دبي. لذا يتحول صرح «برج العرب» المعماري، بريشته، إلى لوحات لا نهائية من التكوينات والتشكيلات الفنية، والتي يراها بعين المعماري، فهو قبل أن يكون رساماً، أمضى أكثر من ثماني سنوات في دبي كمهندس معماري، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة المعمارية، إلا أنه سرعان ما وجد موهبته في الرسم ليتفرغ لهذا الفن ويكرس كل طاقاته له، متخلياً عن مهنته الأصلية.
فقد رسم، اخيرا، سلسلة من اللوحات الفنية، يستوحي فيها قلب منطقة الجميرا وفندق برج العرب، وجعلها في متناول الجميع عندما افتتح في الفترة الماضية القريبة، مرسماً ومتجراً في «برج العرب»، لتسويق لوحاته. ويمزج الفنان في لوحاته، بين «برج العرب» كأيقونة فنية ساحرة، وبين عمارتها الهندسية، ذلك من خلال دمج التراث البحري الذي يعتمد عليه هذا الصرح المعماري، والحداثة الفنية التي جلبها معه من الغرب. وتمكن من أن يستوحي ركائز ابداعية مهمة، من الأبراج الشاهقة، بأبعادها الطبيعية والثلاثية. ويجد الفنان في برج العرب ومنطقة الجميرا المعمارية.
وكذلك أبراج دبي الأخرى، مصدر قوة الإلهام الفني التي تقود جميع المشاريع المعمارية في دبي. ويصور هوبير كيف تم تشييد شارع الشيخ زايد وبرج خليفة والمعالم الأخرى، إذ أثارت هذه النهضة العمرانية، كما يقول، اهتمامه النوعي، باعتباره مهندساً مدنياً وفناناً في آن واحد. ويشرح كيف اكتشف أفق دبي العمراني كما يبدو لي شبيهاً بدقات القلب النابض بالحياة لأنها ليست مدينة ساكنة بل متحركة مثل تخطيطات القلب النابض.
يشدد هوبير، على أن دبي بالنسبة له، عبارة عن مزيج من طبيعة الصحراء والمدينة الحديثة، وهذا ما نراه منعكساً على لوحاته، ويؤكد على قناعته، بأن دبي فخورة بأبراجها العظيمة، وكذلك فخورة أيضاً برمال صحرائها. وهكذا تخرج لديه المنحوتات المجسمة من خلفيات الصورة، ذات الأبعاد الثلاثية، لتشكل تأثيراتها اللامتناهية في تحولاتها، وتفاصيلها الخفية وظلالها وانعكاساتها.
روح دبي.. إبداعات مميزة
ما يلفت ويشد المصور الإنجليزي جيري أوليري في دبي، هو كونها أسرع مدينة تتطور في الشرق الأوسط، بل والعالم. وقد عكس تفاصيل وملامح ذلك في مجموعة صور مهمة. وهو يشير إلى أنه يقال ان ربع رافعات البناء في العالم تعمل هنا (في دبي)، ويبين أنه يعكس ذلك في صوره. كما أن طقس دبي مثالي بالنسبة لتصوير المعمار. ويوضح الفنان انه لم يتعب من الترحال، فقد زار بلداناً عديدة، منها: إفريقيا وروسيا وأميركا والمغرب ومالي ونيجيريا وكينيا. وصور أجمل مبانيها. ولكن محطة ابداعاته في دبي، لها قيمة خاصة، كما يلفت.
ومن المعرف أن التصوير الفوتوغرافي لم يعد، كما كان مع تطور التقنيات الرقمية، وعلى هذا الأساس، فإن جيري أوليري يؤمن بأن عناصر التصوير أصبحت متاحة للجميع، ولكن رؤية المصور هي الأساسية من حيث الرؤية والعمق.
أجواء نموذجية
ويشدد جيري أوليري على ايمانه بمقولة المصور الفرنسي هنري كاريير بريسون، ان الصورة الجيدة هي التي تجذب انتباهك أكثر من الصور الأخرى. والمشاهد الذي يمضي وقتاً أطول على صورة واحدة في معرض ما أكثر من الصور الأخرى، يعبر عن رسوخ الدليل على أن هذه الصورة استوقفته وخاطبته وتواصلت معه. هذا ما تفعله الصورة الجيدة، شأنها شأن أي عمل أدبي أو فني. ويؤكد أوليري أنه لا توجد صورة متكاملة، من دون وء ناصع. وهو يرى ان دبي بلد الشمس والضوء، ولذا فهي، وبناء على تجربته، فهي تمنح الصورة ألقها وروحها.
وهو يبين أنه عاصر التطور العمراني العالمي، ويعمل على عكس ورصد تفاصيل ذلك، ومن ابرزها مسيرة التطور في دبي، في عدسته. إذ إنه شهد تطور التصاميم المعمارية في الواجهات الزجاجية والحديدية في المعمار الحديث. ويقول بهذا الصدد: «استخدم الضوء والتشكيل والمنظور، للتعبير عن رؤيتي الفنية للمعمار، أي أصوّر لحظة إبداع المهندسين من خلال سيطرتي على الفضاء المعماري، عبر الصورة». ونجد فعليا، أن شجرته نابضة بالحياة والفانتازيا والبشر والهندسة.
ودائما، لا نعثر على الوجوه في لوحاته، بل على الأشكال. تشبعت المصورة الفرنسية لويز رازي برؤية المناظر والمشاهد الطبيعية والحياتية من باريس واليونان وأثيوبيا والصين والهند، وهي انتقلت برؤيتها إلى دبي، لكي ترسمها بعدستها، عبر ابداعات تتراوح بين الصورة الفوتوغرافية واللوحة التشكيلية، بحيث لا يمكن التفريق بينهما، ولا يمكن تحديد من أين تبدأ الصورة الفوتوغرافية ومن اين تبدأ اللوحة التشكيلية.
وتنجز رازي صورها، بناء على خلفيتها العملية في دراسة تاريخ الفن، حيث سافرت في سنوات صباها إلى اليونان. كما تستخدم، في هذا المجال، مهاراتها التكنولوجية في حقل تقنية الإخراج، حيث كانت قد عملت في التلفزيون. وهذا إضافة إلى معرفتها بعارضات الأزياء، وتجربتها الكبيرة في تصويرهن.
وقد تمكنت من أن تمنح صورها الفوتوغرافية، الأبعاد الثلاثة التي ظهرت من خلال مزاوجتها بين موهبتها التقنية ورؤيتها الجمالية. ومضى على عملها في التصوير نحو خمسين عاماً. وعبر هذه السنوات الخمسين، تعلمت كيف تصور التنّوع البشري، والكون والقداسة عند الشعوب التي ولعت بتصويرهم. وهي تستجيب لما يفرضه العصر عليها من مستجدات، حيث انتقلت إلى تصوير التغييرات المناخية.
وتؤكد لويز رازي على انها وجدت في دبي رؤية فنية لم تجدها في أي بلد آخر، حيث يتزاوج القديم والحديث في نسيج متناغم وجاذب، فالأبراج لم تؤثر على الهوية الإماراتية، كما ترى الفنانة، ومن ما تترجمه صيغ بديعة، تحكي عن أوجه الحياة المختلفة.
سحر السريالية في الصورة
ألق خاص ساحر تصوغه في دبي، في قالب ونبض الصور السريالية، والتي برع في تجسيد مجموعة مهمة منها عن الإمارة، المصور والمهندس المعماري الإيطالي كلوديو كوسياديفيرو، الذي بدأ بالتقاط الصور في عام 1999، بينما كان يدرس في جامعة ريغو كالاباريا.
ثم بدأ بتصوير العجائز والشيوخ في جنوب ايطاليا، وأظهر في صوره علاقتهم البدائية والغريزية بالمجتمع. ومن بعد ذلك انتقل إلى تصوير المشاهد السريالية. وتميزت صوره بالأشكال الحيّة والحادة. وفي عام 2004 حصل على جائزة «امبرتو بوكوني للتصوير بالأبيض والأسود».
وشارك في معارض متوعة في ايطاليا وفرنسا. كما أقام معرضاً للصور في متحف اللوفر في باريس. وشارك في «بينالي السابع للفن المعاصر» في فرنسا. ويوضح أنه جذبته دبي بشكل خاص، فالتقط لها سلسلة من الصور الاستثنائية، وهو يمزج أكثر من صورة في صورة واحدة، ويعطي الانطباع إلى الواقع الحقيقي. وهو يبني عالمه الخاص من خلال تركيب الصورة، وإطلاقها في أفقه الفني الذي يقترب من السريالية.
أفق الصورة
يعد المبدع الإنجليزي جيري أوليري، واحدا من أشهر المصورّين المعماريين في العالم. وكان قد انتقل من العمل في حقل البناء والهندسة إلى مجال فن التصوير، وتحوّل إلى مصوّر بارع للفن المعماري. وحصل على ست جوائز ايرلندية وانجليزية وأوروبية، متخصصة بالتصوير، خلال السنوات الأربع الأخيرة. وهو عضو في: جمعية المصورين الإيرلنديين، جمعية المصورين المحترفين، جمعية المصورين ــ الماستر. وفازت صورته «مطار دبي» بجائزة أفضل مصور فوتوغرافي للتصوير المعماري، البريطانية.
