»التاريخ كما ينبغي أن يكون«.. جملة ذات معنى حيوي ومعمق، تكررت كثيراً على لسان الفنان يحيى الفخراني في المسلسل المصري »عباس الأبيض في اليوم الأسود«، والذي اعتبره النقاد من كلاسيكيات الدراما المصرية، لعب فيه الفخراني دور المؤرخ، مركزاً على جوهر وفلسفة علم التاريخ، من خلال كتابه الذي ظل مخطوطاً حتى طبعته ابنته، على حسابها الخاص، والكتاب يحمل اسم »التاريخ كما ينبغي أن يكون«.

قد يعتبر البعض أن عنوان الكتاب هذا، وتلك الجملة المتكررة في أحداث المسلسل، مجرد كلام في سيناريو وحوار، ولكنها في الحقيقة جزء من معنى وجوهر وترميم التاريخ الكامن بيننا وهو نتاج حكايات الشعوب، وكواليس السياسة في دهاليز القصور.

وأيضاً هناك تاريخ يُرى ويعيش بيننا، مبيناً عظمة الحضارات والأمم والشعوب، كالآثار والمعمار وأمهات الكتب والمراجع، والتي من أهمها القرآن الكريم والعديد من نسخه النادرة من حيث جماليات العناية بها كتذهيب أغلفتها بالذهب الخالص، والموجودة في العديد من مراكز حفظ المخطوطات والمتاحف.

 مفهوم

التاريخ هو السجل الذي يدونه المؤرخون بطرق مدروسة وبفلسفة الشرح والاستنتاج والتفسير، ولكتابة التاريخ مذاهب متعددة تعتمد على أصول فكرية مرتبطة بالواقع الذي كان، والذي يتم إدخاله في طي التأريخ، فهو ببساطة أكثر من حكاية شعوب وساسة وفكر أمم، حكاية حروب وسلام، ثورات وعهود جديدة، كواليس خفية وأحداث ظاهرة، كل ذلك يدون تحت مسمى «التأريخ»، ولكن هل التاريخ يقف عند هذه الحدود جميعها والمفاهيم سالفة الذكر فقط؟

بالطبع لا.. فنون العمارة الأثرية بمختلف أنواعها وأشكالها، تاريخ للأمم وشعوب، المخطوطات والفكر والفن بكل ما تحتويه هذه الكلمات من معنى وعمق، هو تاريخ، وكل ما هو قديم قدم الدهر الذي لا يزال يطل من حضارات الأمم والشعوب كالحضارة الفرعونية والإغريقية والبيزنطية والرومانية والعثمانية، جميعها مشاهد تاريخية بيننا تحيا وتحكي في صمت، فكر وحضارة وعمارة شعوب الأرض، وجميعها، بفعل القدم حيث تطل علينا من عصور سحيقة لابد لها من ترميم.

ومفهوم الترميم ببساطة إعادة تجديدها من دون إضافة أي لمسة تجديد أو تحديث حتى لا يطاح بقيمتها الأثرية والتاريخية وللحفاظ على المعنى والجوهر الخاص بالفترة الزمنية البعيدة التي يطل منها الأثر أينما كان، مخطوطات معمار، جداريات، قصور، ومتاحف، سيارات، توابيت، فخاريات ومجوهرات، منمنمات وصناديق، توابيت وأثاث، كل ذلك وأكثر هو تاريخ مرئي، بيننا يعيش.

وبه نتفاخر ونسعد، ندرسه ونكتشف عبقرية الفكر والتشييد والفن وكل ما هو جميل وراسخ ورائع. متخصصون على أعلى مستوى ودراية بكيفية الترميم على مستوى العالم، يحيون بأناملهم ما أفسده الدهر وعوامل التعرية ومحاولات السطو والسرقة، والثورات والحروب والحرائق والكوارث الطبيعية.

 «وصف مصر»

أحدث ما شهدته منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة الماضية هو ترميم كتاب «وصف مصر» الذي حرق 40% منه خلال توابع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، بسبب النيران التي شبت في المجمع العلمي، فقد أوضحت الأستاذة ميرفت محمد علي مسؤولة بإدارة الترميم بدار الكتب والوثائق المصرية أنه تم إنقاذ 60% من كتاب «وصف مصر»، وإن نسبة 40٪ من التلفيات التي ألمت بالمجلد النادر تم ترميمها لأن الخسائر كانت في أطراف الصفحات فقط، حسب ما أدلت ميرفت محمد علي بذلك في حديث تلفزيوني معها على إحدى الفضائيات المصرية وقناة إخبارية أجنبية عن طريق مراسلها بالقاهرة وقت الحادثة.

وأكد الدكتور زين عبدالهادي رئيس الإدارة المركزية لدار الكتب المصرية والوثائقية بالقاهرة، أن كتاب «وصف مصر» له نسخة أصلية في دار الكتب المصرية وأخرى أصلية بمجلس الشعب المصري محفوظة داخل حجرة مغلقة بباب مُصَفّحْ مقاوم للحريق والرصاص، والنسخة التي كانت بالمجمع العلمي ليست الوحيدة الموجودة بالقاهرة، وقد أثلجت صدور المصريين والعرب ومقدري التراث العريق عند معرفة هذه التفاصيل.

وما زال الترميم مستمراً في ما ألمّ ببعض الخسائر في مجلس الشعب المصري، فقد أوضح خبير الآثار المصري دكتور محمد بلبع في تغطية لافتتاح مجلس الشعب المصري بعد عمليات الترميم، بأن الخبراء المصريين والفرنسيين قاموا بعمليات ترميم دقيقة وتجديد لبعض التلفيات السطحية وظهرت جميع قاعات المجلس التي شهدت عصور مصر المختلفة ابتداءً من قبل عصر الملك فاروق ملك مصر والسودان.

وضباط ثورة 23 يوليو وعصر السادات ومبارك، وقد اكتست القاعات الرئيسية بالمخمل الأخضر الفاتح وتم ترميم الخيوط الذهبية التي تزين القماش، وتم ترميم القاعة الفرعونية والقاعة الأثرية التي تضم كرسي العرش الملكي للملك فاروق ووراءه التاج الذهبي المرصع بالأحجار الكريمة، وعربة الحنطور على الطراز الإنجليزي التي ركبته الملكة «أوجنية» عندما حضرت لمصر في حفل افتتاح قناة السويس.

 مركز متخصص

بدار الكتب المصرية الأثرية، مركز عالِ المستوى في الترميم والصيانة وهو أحد المحاور الرئيسية في دار الكتب المصرية لحفظ وصيانة المقتنيات الأثرية والقومية، ويعمل المركز المتخصص بشكل علمي دقيق جداً طبقاً لما وصلت إليه أحدث وسائل الترميم في العالم وهو واحد من أعرق مراكز الترميم على مستوى العالم، فقد أنشئ مركز الترميم بدار الكتب المصرية القومية في العام 1970 تحت إشراف المرحوم الدكتور يوسف شوقي .

حيث وضعت دعائمه وتجهيزاته إحدى خبيرات علم الترميم الإيطاليات، وتمت الدراسة بشكل خاص للحفاظ على التراث القومي وأوائل المطبوعات والمخطوطات، وشملت الدراسة مؤثرات البيئة على تقادم الورق وتلفياته مع دراسة أبحاث قياسية لتحديد طرق التخزين بشكل آمن وسليم لتقليل الآثار السلبية على المقتنيات النادرة المصرية والعالمية.

ومركز الترميم بدار الكتب المصرية يراعي في عمليات الترميم وسائل التهوية والصرف الصحي والكهرباء بأن يكون جميعها سليماً محاطاً بالتجديدات حتى لا تحدث أي آثار جانبية منها تودي بالمخطوطات النفيسة الموجودة بالدار.

وهناك قسم خاص لترميم وتذهيب المصاحف في وحدة الترميم اليدوي والتجليد للأغلفة وصيانة الذهب، بالإضافة إلى وجود وحدة الترميم الآلي الحديثة ووحدة تعقيم، حتى لا توجد فرصة لتواجد حشرات الورق التي تعتبر أخطر آفة على الأثريات الورقية. ولوحدة الترميم بدار الكتب المصرية فروع بالجامعات والمتاحف.

 في العواصم العربية والعريقة

تقوم نخبة من الأساتذة والمهندسين المتخصصين في ترميم الآثار كالمساجد والكنائس بترميم الآثار عن طريق إعادة شكلها معافى جديداً من دون المساس بالبعد الأثري القديم لها، وأولى الخطوات في هذا المجال هو وضع طبقات خاصة على الأثار لحمايتها من التأثيرات السلبية لعوامل التعرية والرطوبة والتقلبات المناخية ونشع الماء عن طريق انخفاض الأرض عن المستوى الذي تم عليه بناء الأثر قديماً، وحمايتها من الأملاح والأتربة وبخار الماء الموجود في الهواء.

ولكل نوع من المباني الأثرية طريقة خاصة في الترميم، فالمباني الحجرية والصخرية ترمم بطرق مختلفة عن المباني الزجاجية والرخامية والتي يستخدم فيها الفيسفاء الملون، والأسطح الخارجية للمباني الأثرية هي التي تطولها نسبة عالية من التلفيات عن داخل المباني والمساجد.

ولكن الفيسفساء داخل المباني الأثرية ترمم عن طريق إعادة إلصاقها بعضها ببعض بعد حدوث تشققات في ما بينها وانهيار الترابط بين الحبيبات بعضها البعض، وهناك مبانٍ أثرية في العالم العربي وخاصة القاهرة التي تعاني من تأثير ارتفاع منسوب المياه الجوفية والتي تبلغ في المتوسط 500 ألف بليون متر مكعب.

وتشمل عمليات ترميم المباني المعمارية أيضاً تدعيم الجدران من الخارج في حالة المقابر والمساجد والكنائس التي تعتمد في بنائها على الأحجار.

 ترميم المنسوجات؟

تعتبر المنسوجات الموجودة في المتاحف المصرية والدمشقية والعالمية من أكثر الأثريات التي يمكن أن تصاب بالتلف، ويخضع ترميم المنسوجات واللوحات المرسومة على النسيج التي اشتهرت بها الحضارة الفرعونية والإغريقية، يخضع الترميم لها بعمليات متعددة منها تعريضها لدرجة متوسطة من البخار ثم التجفيف.

وهناك طرق ترميم يدوية متخصصة وأخرى باستخدام الميكنة الحديثة، وأيضاً تخضع المنسوجات للترميم الكيميائي لإزالة البقع والتي لابد أولاً من إجراء اختبارات قبل الترميم الكيميائي حتى لا يفسد الأثر المفرط في القدم مثل اللوحات القماشية التي يرجع تاريخها للأسر الفرعونية الأولى، والمدون عليها بالرسم والألوان المعارك الحربية وأعياد الحصاد والعبادات.

 دبي.. ترميم المخطوطات

يوجد في دبي واحد من أشهر مراكز الترميم في المنطقة العربية في مركز جمعة الماجدفي دبي لترميم المخطوطات والمطبوعات الورقية والجلدية وشعبة إعادة التجليد بعد تلفيات الجلد بالتشققات، وقد أنشئ مركز جمعة الماجدفي دبي، لترميم في شهر أغسطس من سنة 1992.

والهدف الأساس منه هو القيام بعمليات الصيانة والترميم التي تخضع لها ممتلكات المركز الورقية من مخطوطات ومطبوعات ووثائق وخرائط. وتعنـــى شعبـــة ترميـــم المخطوطات بالتعقيم للأوراق المصابـــة بالآفـــات.

ومعالجتها كيميائياً لتطهيرها، ثم تجليدها بأغلفة خاصة مقاومة للرطوبة وعوامل التعرية والآثار السلبية الناجمة عن الأتربة. وبالمركز أيضاً شعبة التجليد الحديث بأنواع خاصة من الجلود التي تمنع تسرب أي آفات للمخطوط. وينظم مركز جمعة الماجد للترميم دورات تدريبية لإنشاء أجيال من الشباب في هذا المجال الدقيق والمهم.

وقد تـــم افتتاح قاعــات في متحـــف متروبوليتـــــان للفنون بنيويـــورك لعرض الفنون الإسلاميــة التي تم ترميمها وتجديدها، حيث تم تسخير متخصصين في الترميم من متحف متروبوليتان، والفنون الإسلامية المعروفة يرجع تاريخها إلى القرن السابع الميلادي وحتى القرن التاسع عشر الميلادي.

بالإضافة إلى آثار خزفية وزجاجية من مصر وسوريا، كما تضم مجموعات الآثار أيضاً المخطوطات المزخرفة التي اشتهر بها العثمانيون، ومنمنمات مغربية تعكس هــذا التراث الذي اشتهرت به مدينة فاس المغربية.